هل تذهب أوروبا نحو الطلاق مع الأميركيين؟
د. وفيق إبراهيم
التناقض الأوروبي مع السياسات الأميركية باتَ واضحاً، ويتفاقم في ولاية الرئيس الحالي للبيت الأبيض دونالد ترامب. فهل تنجح أوروبا في حماية مصالحها وكيف؟ علماً أنّ الخلافات بين الفريقين المتحالفين منذ الحرب العالمية الثانية تنتقل إلى عشرات الملفات البينية والدولية بخلفية اقتصادية لا تنفكّ تتدهور مع تصاعد الميول الاحتكارية الأميركية التي لا تريد شريكاً حتى بنسبٍ ضعيفة. فهناك طبقة من غلاة الرأسماليين الأميركيين تكمن خلف ترامب، وتخطط للاستيلاء على مراكز القوة الاقتصادية في العالم ومن دون شركاء.
للإشارة، فإنّ مرحلة ما قبل ترامب كانت أوروبا بمثلث قواها، الألماني والفرنسي والإنكليزي، مرتاحة فيها إلى استيلائها على حصة وازنة من الأسواق بموافقة الطرف الأميركي. أمّا اليوم، فيلتهم الأميركيون كلّ شيء، ويضعونها في خدمة صناعتهم من السلاح حتى الجينز مروراً بالصناعات الإلكترونية والكهربائية وعالم السيارات والسفن والبوارج، متناسين حلفاءهم الاستراتيجيين في أوروبا، الذين لديهم الصناعات نفسها ولا يجدون لها أسواقاً إلا بصعوبة، لأنّ هذه الأسواق ممسوكة سياسياً من الأميركيين.
وهناك أدلّة! ألَم تخدم السياسة الأميركية باستعداء إيران صناعة السلاح الأميركية التي باعت دول الخليج منها بمئتي مليار دولار حتى الآن في غضون نصف العقد الأخير، وفعلت الأمر نفسه مع كوريا الجنوبية واليابان اللتين اشترتا مؤخراً الكثير من الأسلحة لمجابهة كوريا الشمالية ! ، في ملف مفبرك للزوم تهيئة الظروف المؤاتية لبيع السلاح… ولا تزال تخيف دول أوروبا الشرقية من روسيا لبيعها كلّ شيء تقريباً؟
فإذا كانت واشنطن تحتكر البيع والشراء في الخليج العربي ألف مليار دولار ثمن عقود مع ترامب وشراء أسلحة وجنوب شرق آسيا، وأوروبا، فماذا يتبقّى للآخرين؟
علماً أنّ أستراليا ملعب أميركي صرف، وكذلك كندا… وتتهيّأ الصناعات الأميركية للانتقال إلى أفريقيا عبر إدارة نزاعات في الصومال والسودان ونيجيريا ومالي وتونس وليبيا وبلدان أخرى… لن تنجو بدورها من مصانع السلاح الأميركية التي تترقّب نتائج حركة السياسة الأميركية التي تعمل على احتكار الصفقات فيها.
أوروبا إذن مستهدَفة، لأنّها دول صناعية كانت تستحوذ دائماً على حصة من الأسواق تكفيها لدعم طبقاتها الوسطى، المؤسسة للاستقرار السياسي فيها.
يُذكر أنّ أوروبا التي فقد اتحادها من عضويّته بريطانيا المرتبطة بالسياسة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ويُظهر استمرار هيمنة واشنطن عليها في استمرار وجود قواعد أميركية في ألمانيا كنتيجة لانتصارها على هتلر، ووسيلة لمنعها من إنتاج أسلحة متقدّمة.
ومقابل التحالف الأوروبي مع الأميركيين في وجه الاتحاد السوفياتي من 1945 حتى 1990، احتلت بلدان أوروبا مواقع اقتصادية هامّة بموافقة من واشنطن، وكذلك فعلت اليابان التي لا يزال الأميركيون يقيمون فيها قواعد عسكرية تُعتبر رمزاً لانتصارهم عليها في الحرب العالمية الثانية… طوكيو أيضاً، ومن دون قوات عسكرية متقدمة، أحرزت موقعاً اقتصادياً عالمياً بموافقة أميركية.
إلا أنّ العلاقات الجيدة بين الطرفين أصبحت لا تشكّل حاجة استراتيجية للأميركيين منذ بدايات هذا القرن، ولم تعُد ضرورية للأوروبيين أيضاً، لأنّهم ما عادوا يخشون الصراع الإيديولوجي مع الاتحاد السوفياتي. فروسيا أصبحت دولة رأسمالية براغماتية مثلهم تماماً، إنّما مع شيء من الأخلاق التي فقدها العالم الرأسمالي في حركته الاستعمارية التي بدأت قبل ثلاثة قرون وأكثر.
لذلك تسجّل القوى الأساسية في أوروبا، وخصوصاً في ركنيها الألماني والفرنسي، أسئلة عن جدوى التحالف مع الأميركيين الذين يطوّقون أسواق الاستهلاك، حارمين حلفاءهم من الدخول إليها اقتصادياً. ولم تعد واشنطن تريد دفع أكلاف الهيمنة الاقتصادية في سياسات الانتشار والقواعد والحروب والأمم المتحدة والمعونات لدول فيها أهميات تتعلّق بالموقع والسياسة، وليس فيها مواقع اقتصادية. لقد أصبح اهتمام الأميركيين منحصراً في الصفقات المباشرة، من دون أن يركّزوا على العناصر السياسية المحيطة بها، ما أدّى إلى ظهور ملفات خلاف كبيرة بين الطرفين أولها ملف المناخ الذي يعني ضرورة بناء أنظمة تمنع التلوّث في الدول الصناعية الكبيرة، ولأنّ لهذا الأمر كلفة على الأميركيين، فقد رفضه ترامب ولم يقبل بتمديده، فيما أيّده الأوروبيون بكاملهم.
وكذلك فعل مع ملف التجارة العالمية، الذي جمّده أيضاً مدمّراً مبدأ العولمة الذي كانت السياسة الأميركية نشرته في العالم على أساس فتح الحدود السياسية أمام السلع من دون عوائق. وكانت تأمل من وراء ذلك هيمنة السلعة الأميركية، لأنّ بلدان العالم الثالث غير صناعية، لكنّها اكتشفت أنّ الأطراف التي استفادت من «العولمة» هي فرنسا وألمانيا… والصين التي تمكّنت سلعها الرخيصة من اقتحام الأسواق الأميركية والأوروبية والعالم الثالث، فحققت لها نهضة صناعية وضعتها في لوائح القوى الأساسية في العالم.
لذلك، فهناك إصرار أميركي على إلغاء اتفاقية التجارة العالمية.
ولم يوافق الأوروبيون على افتعال ترامب لمشروع حرب نووية مع كوريا الشمالية، لأنّهم فهموها على أنّها مشروع مغامر قد يؤدّي إلى حرب عالمية ثالثة، أو ينتهي ببيع سلاح أميركي للدول المذعورة، وهذا ما يحصل.
كما أنّ فرنسا وألمانيا اختلفتا مع الأميركيين على مجمل أزمات «الشرق الأوسط»، ورفضتا القبول بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، وطالبتا بتسوية سياسية للأزمات في سورية والعراق واليمن… ما أرغم الأميركيين على طرح مواقف مشابهة على مستوى اللفظ فقط.
لكنّ الخلاف الأكبر بين الفريقين تجسّد في موضوع الملف النووي الإيراني، فواشنطن أرادته وسيلة لإسقاط الدولة الإيرانية، فيما اعتمدت أوروبا على تقرير وكالة الطاقة الدولية للتأكيد على أنّ إيران تلتزم حرفياً بتنفيذ الاتفاق، ما أضعف حجج ترامب وفرض عليه التجديد للاتفاق إنما بشروط، ولم يتورّع عن مهاجمة أوروبا في هذا الموضوع أيضاً، لتجرّئها على رفض الموقف الأميركي بهذا الخصوص.
لقد بدا أنّ الملف النووي الإيراني هو حاجة أميركية لتحشيد دول الخليج معها، والتحكّم بأسواقها الاقتصادية وكل مراكز القوة المالية فيها، في حين أنّه يجسّد للأوروبيين مشروع العودة الاقتصادية إلى «الشرق الأوسط» من خلال عمليات إعادة الإعمار في إيران وحلفائها في العراق وسورية، وهي عمليات تنعش الاستقرار الاقتصادي والسياسي في القارّة العجوز، وتثبّت موقعها السياسي في العالم على الرّغم من الرفض الأميركي الحازم.
في ضوء هذه الخلافات، يمكن القول إنّ الصراع الاقتصادي بين الاتحاد الأوروبي والأميركيين كبير، ويذهب باتجاهات تناقضية أوسع وأكثر حدّة. وإذا ما جرى ربطه بتفكّك الصراع الإيديولوجي مع الاتحاد السوفياتي وانتهاء الأخطار الكونية الكبرى منذ 1990 ، فيجب توقّع ولادة سياسات أوروبية جديدة تقوم على أساس تأمين الحاجات الاقتصادية الأوروبية. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالصراع مع محتكري الأسواق، وهم الأميركيون أولاً وأخيراً، لأنّ السلعة الأوروبية المتنوّعة قريبة من حيث المستوى من السلعة الأميركية، ولا تنافس السلع الصينية الرخيصة جداً! لذلك، فإنّ التناقض هو ألماني فرنسي أميركي، باعتبار أنّ روسيا لا تزال بمستوى اقتصادي منخفض.
فهل تؤدّي هذه المعادلة إلى طلاق أوروبي أميركي على المستوى الاستراتيجي السياسي؟
لمَ لا، وأوروبا تمتلك كلّ عناصر احتكار القوة، بدءاً من امتلاك السلاح النووي والجيوش النظامية والجوار مع «الشرق الأوسط» وأفريقيا والعلاقات التاريخية مع معظم المناطق العالمية، وهذا يؤشّر إلى احتمال ولادة رباعية قوى دولية تتّجه إلى التشكّل في العقود المقبلة، وأولها بالطبع القوة الأميركية والصينية والروسية والأوروبية.
هذا ليس تنبّؤاً، بقدر ما يدرس السياسة العالمية بخلفية الاقتصاد الذي يشكّل قلب الحروب منذ بداياتها، وأوروبا تتّجه لتنفيذ هذه المعاهدة بعدما أحرجها رئيس أميركي حالي يحاول تجريدها من آخر ما تمتلكه للاستمرار في مواقع الدول المتمكّنة.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/01/17