إعادة هيكلة السلطة سعودياًَ: حسم العرش في ذرية ابن سلمان
عباس بوصفوان
لا تنص مادة توارث الحكم على أن يكون الملك من الأبناء بالضرورة (أرشيف)
السؤال الأهم، سعودياً، ليس في ما إذا كان أو متى سيتنحى الملك سلمان بن عبد العزيز عن الحكم لنجله محمد، بل كيف ومتى سيُحسم العرش السعودي في عقِب محمد بن سلمان.
إعادة هيكلة المؤسسات السعودية الحاكمة لا تهدف إلى تأمين وصول ابن سلمان إلى العرش السعودي وحسب، بل إلى ضمان توارث الحكم في نسل النجل المفضل للملك السعودي السابع.
ويراد بنهاية هذه المعركة الطاحنة أن ينتقل منصب المَلك «من الأب (محمد بن سلمان) إلى أكبر أبنائه سناً»، كما يرد عادة في أغلب نصوص الدساتير في الملكيات المطلقة، وهي صيغة من المرجح أن يقرها ابن سلمان - بعد تمكنه من العرش - في تعديل يجريه على المادة الخامسة من النظام الأساسي المعنية بتوارث الحكم، العرضة للتغيير مع تولي أي ملك سعودي جديد للسلطة.
البعد الدستوري: صلاحيات مطلقة للملك
يجمع الملك السعودي بين يديه جميع الصلاحيات التنفيذية والتشريعية، فضلاً عن كونه القائد الأعلى لكافة التشكيلات العسكرية في المملكة، وهو صاحب القرار السياسي والعسكري والمالي والاقتصادي والقضائي في البلاد.
كذلك يمنح النظام الأساسي (الدستور) الملك حقوقاً مطلقة في إصدار التعديلات على النظام الأساسي أو تغييره برمته، وإمضاء القوانين والأوامر والمراسيم.
وسبق للملك السعودي الخامس (فهد بن عبد العزيز) أن أصدر النظام الأساسي، في مارس ١٩٩٢ «بناءً على ما تقتضيه المصلحة العامة، ونظراً لتطور الدولة في مختلف المجالات، ورغبة في تحقيق الأهداف التي نسعى إليها»، ولم يجرِ الإصدار بناءً على قرار مجلس العائلة المالكة، أو عرض مجلس الوزراء أو موافقته، أو التداول بشأن ذلك مع كبار العلماء، أو مشاورة أهل الحل والعقد، أو استفتاء شعبي.
القرار انبعث من إرادة ملكية منفردة، وبطبيعة الحال هنالك ملابسات سياسية مهمة - ليس هنا موضع نقاشها - يمكن أن تدرج كخلفيات لإعلان النظام الأساسي وتأسيس مجلس الشورى ونظام المناطق، حينها.
كما أصدر الملك عبد الله بن عبد العزيز، في ديسمبر ٢٠٠٧، أمراً ملكياً، بتشكيل هيئة البيعة، وتعديل المادة الخامسة من النظام الأساسي بما يمنح الهيئة الوليدة دورا في اختيار ولي العهد. وجرى ذلك التعديل بمشيئة ملكية وحيدة «بناءً على المصلحة العامة».
ولا يعلم على نحو اليقين مدى توافق الآراء داخل العائلة الحاكمة بشأن ذلك، لكن من المرجح أن الملك السعودي السادس كان بصدد تهيئة الأرضية لتولي نجله متعب دوراً أعلى في السلطة، والسعي لترقيته لمنصب ولاية العهد، وهو الأمر الذي ما تمكن عبد الله من القيام به لأسباب عدة، أبرزها تحفظه وقلقه من ردود فعل ولي العهد السابق والملك الحالي سلمان.
ساد اعتقاد بأن إطاحة محمد بن نايف من ولاية العهد قد تكون شائكة
وما صادف الملك سلمان غضاضة في إعادة كتابة المادة الخامسة مرة جديدة بعد أن استتبّ له الأمر. وينصّ التعديل الذي أعلنه في يونيو ٢٠١٧، بعد إطاحة وليّ العهد السابق محمد بن نايف، على أن «لا يكون من بعد أبناء الملك المؤسس ملك وولي للعهد من فرع واحد من ذرية الملك المؤسس». والغرض المدعى من التعديل الثاني منع ولي العهد الحالي محمد بن سلمان من تعيين نجله ولياً للعهد، بعد بلوغه إلى العرش.
وليس في افتراض أن ابن سلمان سيحافظ على نص المادة الخامسة كما أقرها والده - بما يمنعه من تعيين نجله - أي سند قانوني، أو مرتكز سياسي، أو تقليد متعارف عليه، أو توازن في القوى في العائلة السعودية، أو مجلس تشريعي يحد من سلطات رأس الدولة، أو أحزاب تدعو إلى تدارس مسائل الحكم، أو صحافة حرة تطرح القضايا الدستورية على مبضع التشريح، أو رأي عام يُستمع إليه.
وعلى العكس، فقد كانت المادة الخامسة المذكورة هدفاً لإعادة الإنتاج على يد الملك الراحل عبد الله، والملك الحالي سلمان، وفقاً للغايات السياسية لكل منهما، وكلاهما يبغي تحديد الحكم في عقبه. لذا، إن توقع ألّا يقوم ابن سلمان بإجراء تعديل على المادة ذاتها إذا ارتقى سدة الحكم، لا ينسجم والممارسات القائمة، وحق الملك المطلق في إجراء التعديلات على النظام الأساسي.
ممارسة توارث الحكم: غياب التقاليد
لم يصل سلمان إلى منصب الملك لأنه الابن الأكبر الحي للعاهل المؤسس، فترتيبه الخامس والعشرون من أبناء ابن سعود الذكور، وقد تخطى العديد من إخوته ليكون على رأس العرش.
والحقيقة، أن نظام توارث الحكم في العربية السعودية لا ينص على أن يتربع على كرسي المملكة أكبر الأبناء من نسل الملك ابن سعود، بل «الأصلح». إذ تنص المادة الخامسة من النظام الأساسي (الصادر في ١٩٩٢) على أن «الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء، ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم».
كذلك لا تتيح الممارسة السياسية للقول بأن النجل الأكبر سناً بين أبناء ابن سعود الأحياء يتولى الموقع الأول في البلاد. وحين عيّن فيصلُ خالداً ولياً للعهد لم يكن أكبر الإخوة عمراً.
وأكثر من ذلك، لا تنص مادة توارث الحكم على أن يكون الملك من الأبناء بالضرورة، بل تمد الحق في ذلك لأبناء الأبناء، دون أي شرط يمنع ذلك حتى مع وجود أبناء أحياء للملك المؤسس، ولا يمكن الاعتداد بالتأويلات والأفهام التي يتداولها بعض أبناء الملك المؤسس بشأن وجوب تعيين أبناء ابن سعود قبل الأحفاد، كما يفهم من تصريحات عدة للأمير طلال بن عبد العزيز. وفي تقديري، إن عدم وقوع سيناريو تعيين أبناء الأبناء قبل تولي سلمان، عائد إلى طبيعة التوازنات بين الإخوة المستفردين بالقرار، وليس جميع أبناء عبد العزيز.
تعيين ولي العهد وإزاحته: حكم ولي الأمر
بوصول الملك سلمان إلى سدة الحكم، برزت من جديد وعلى نحو جليّ الصلاحيات المطلقة للملك في إعادة هيكلة السلطات الدستورية والتنفيذية والمالية والإعلامية، وتركيزها في يد الملك القادم محمد.
لم يُظهر الملك سلمان تحفظاً على النحو الذي ميّز خطوات الملك عبد الله الحذرة والبطيئة في إعادة هيكلة السلطة. وحتى إزاحة عبد العزيز بن فهد (الرجل القوي إبان حكم والده) من منصبه في مجلس الوزراء، حصلت في ٢٠١١، بعد تولي عبد الله زمام المسؤولية رسمياً بنحو ست سنوات من وفاة فهد.
أما سلمان، فقد عاجل أخاه غير الشقيق الأمير مقرن بقرار الإزاحة، فأدرجت الابن الأصغر للملك المؤسس في خانة المنسيين. بيد أن الضربات السلمانية التالية كانت أكثر جسارة.
وفيما ساد اعتقاد بأن إطاحة محمد بن نايف من ولاية العهد قد تكون شائكة، لكونه رجل الأمن القوي والشريك الموثوق للأميركيين، فإن إطاحة متعب بن عبد الله من رئاسة الحرس الوطني هي ما بدت أكثر تعقيداً، واحتاجت مدة زمنية أطول للإعداد والإخراج. كذلك اتُّخذ قرار إزاحة متعب شكلاً مدوياً، ولم يُكتفَ ضده بإقامة جبرية، بل امتد للتشهير به كأحد بارونات الفساد.
لم يواجه الملك سلمان تساؤلات بشأن دستورية الإجراءات التي سلكها وقانونيتها. فالملك قادر على إعادة كتابة النظام الأساسي متى شاء. وربما دار التساؤل داخل أوساط العائلة الحاكمة عن الإجراءات التي كان يمكن أن يتخذها محمد بن نايف أو متعب بن عبد الله ضد مراكز القوى الأخرى من فروع آل سعود في حال وصول أيٍّ منهما إلى السلطة، وهل كانا سيتبعان الأسلوب ذاته الذي اختطه بن سلمان، أم سيحتفظان بفكرة تقاسم السلطة بين شُعَب العائلة الملكية؟
الأرجح أن محمد بن نايف كان سيظهر شراسة ضد مراكز النفوذ الدينية أو المالية أو العسكرية أو داخل عائلته السعودية، ليضمن بسط نفوذه، وقد لا يختلف متعب إلا في شكل تطبيق نظرية «تغدى به قبل أن يتعشى بك». ولذا، ربما، يبدو كثير من السعوديين غير مأخوذين بما يجري في مملكتهم بالقدر الذي يظهره بعض الخارج، فقد اعتاد مواطنو المملكة صراعات الأجنحة، التي لا تنعكس عليهم، ربما. ولعلهم ينظرون إلى العائلة الملكية كجسم واحد، وهذا لا ينفي خصوصية المرحلة الراهنة، وكون التدابير التي يتبعها ابن سلمان ووالده غير مسبوقة، وصداها باعث على القلق.
الفروع المندثرة: «يُهلك ملوكاً ويستخلف آخرين»
تطيح صراعات القصور وجوهاً وتبرز آخرين. وفي كتابها المهم عن تاريخ المملكة، تذكر الباحثة مضاوي الرشيد أن ابن سعود عمد إلى ترسيخ سلطته عبر تهميش مجايليه من إخوته وأبناء عمومته وتعزيز مكانة أبنائه. وتعدد الرشيد سلسلة الإجراءات التي اتخذها ابن سعود للتخلص من نفوذ إخوته السبعة، والنافذين الآخرين في قبيلته (مضاوي الرشيد، تاريخ العربية السعودية بين القديم والحديث، دار الساقي).
واجتهد نجل الملك الأكبر سعود في تثبيت أبنائه في مراكز رئيسية في بيروقراطية المملكة الناشئة، بيد أن سوء إدارته، ومعارضة الرجل القوي فيصل له حالت دون ترسيخ نفوذ نسل سعود، بل وأدت إلى خلعه، وانتفاء دور أبنائه.
ولم يبقَ من أبناء أو أحفاد الملك السعودي الثالث (فيصل) صوت ظاهر إلا تركي الفيصل رئيس المخابرات الأسبق. ولا تأثير له في القرار، وهو ينشط كصدىً وكأحد أذرع وزارة الخارجية السعودية التي باتت في حضن ابن سلمان، منذ أحيل الراحل سعود الفيصل على التقاعد في أبريل ٢٠١٥. ولعله يبدو لافتاً أن نشاط الأمير تركي يتركز في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لتبرئة والده من عداوة إسرائيل، باعتبارها القضية التي رفعت مكانة فيصل عربياً وإسلامياً.
ويصعب أن تجد شخصاً فاعلاً من أبناء ولي العهد ووزير الدفاع الأسبق سلطان بن عبد العزيز، أو من أبناء الملك الراحل فهد، وآخر المؤثرين من أبناء عبد الله محتجز، فيما محمد بن نايف رهن الإقامة الجبرية.
تلك سُنّة سعودية، فنجل الملك قد يكون شبه ملك، ورحيل الملك يحيل أبناءه على ذاكرة النسيان. ويتحدث الصحفي المعروف جمال خاشقجي عن توجه لدى محمد بن سلمان لإعادة تعريف العائلة الملكية ليجري حصرها في ذرية الملك الحالي، وينحصر لقب صاحب السمو الملكي في أبنائه.
تعيين نجل ابن سلمان ولياً للعهد
يُنظر إلى الملك سلمان على أنه آخر الفاعلين من أبناء الملك عبد العزيز، ونجله محمد على أنه الرجل القوي من نسل سلمان. ولعل اختيار الملك لأوسط أنجاله - وليس أكبرهم - يعكس رؤية سلمان لتسلسل الحكم من بعده.
لا يمنح وصول ابن سلمان إلى منصب ولاية العهد، ثم العرش، فرصة لأي من إخوته ليضعوا أعينهم على كرسي الحكم أو ولاية العهد. الأرجح أن البيت السلماني بصدد التوافق على أن يتولى نجل محمد بن سلمان السلطة من بعده، وهذا يحتاج قدراً من الوقت.
ولا يمنع ذلك تعيين ولي عهد مؤقت، ثم يُزاح. فقد عيّن الملك الأردني عبد الله أخاه حمزة في ولاية العهد قبل أن يزيحه ويعين نجله الحسين، وهو في عمر ١٥ عاماً.
الانعكاسات: منطق القوة والسياسة
عادة ما تخلّف قضايا التوريث جروحاً غائرة، خصوصاً إذا خضعت لمنطق القوة، ولم تترافق معها سلسلة من الإجراءات السياسية (ربما لا يصح مقارنة الوضع السعودي بالحالة في زمبابوي موغابي، أو مصر مبارك، أو اليمن علي عبدالله صالح، أو ليبيا القذافي، وفي جميع تلك الحالات كان التوريث للابن (جمال مبارك: مصر، أحمد علي عبدالله صالح: اليمن، سيف الإسلام القذافي: ليبيا) أو الزوجة (كريس في حالة موغابي) أحد أسباب الإطاحة بالزعيم بثورة أو انقلاب أو تدخل خارجي). فقد قام الملك المؤسس عبد العزيز بإشراك آل جلوي في الحكم لضمان تحييدهم (مضاوي الرشيد، تاريخ العربية السعودية بين القديم والحديث، دار الساقي)، فيما طبع تقاسم السلطة بين الإخوة السديريين، ومعهم الملك عبد الله العقود الأربعة الأخيرة.
إن تسلم آل سلمان الحكم يجري على حساب فروع آل سعود الآخرين، وعلى وقع صراعات إقليمية تسجل فيها الرياض خسارات لا تنكر، ونزف مالي مشهود، وتلك بنود لعدم الاستقرار.
وبالنظر إلى تركيز ابن سلمان على تسلُّم موقع الصدارة، يتزامن مع صراعات داخلية، لا تبقي ولا تذر، وتوترات كسر عظم في الجوار، فإن سيناريو أن يكون مصير ابن سلمان كمصير عمه سعود أو فيصل لا ينبغي تجاهلها.
وقد يضاف سيناريو ثالث هنا، فقد أفرزت «الإصلاحات الاقتصادية» تحت مسميات ٢٠٣٠ أو غيرها في الجوار البحريني واليمني والمصري سخطاً شعبياً غير متوقع، وهو سيناريو قد يكون قابلاً للتكرار في السعودية بعد استنفاد الخطاب الدعائي وقعه، وظهور نتائج سلبية للسياسات المرفوعة، خصوصاً إذا ما أدت إلى تزايد غنى الأغنياء وفقر الفقراء.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/01/19