مشاريع التغيير تصطدم بقوى الثورة المضادة
د. سعيد الشهابي
في مثل هذا اليوم قبل 39 عاما تكللت ثورة الجماهير الإيرانية بالنصر وإسقاط نظام محمد رضا شاه بهلوي، وإعلان قيام الجمهورية الإسلامية. وبذلك بدأت حقبة جديدة من التاريخ الحديث للعالم، تميزت بنوع آخر من الصراع على النفوذ السياسي والإيديولوجي. جاء ذلك بعد 35 عاما من نهاية الحرب العالمية الثانية التي تمنى الغربيون أن لا يحدث مثلها بعد ما شهده من كوارث مادية وبشرية. وبلغ الحلم الغربي ذروته بأن يكون المشروع الديمقراطي نظاما عالميا مدعوما باحترام حقوق الإنسان. وتم العمل لوضع تشريعات دولية تروج هذه الأطروحة التي كانت سلاحا إعلاميا مفيدا في الصراع الذي سرعان ما احتدم بين الغرب الليبرالي والشرق الشيوعي.
في تلك الحقبة كان موضوع حقوق الإنسان أداة سياسية منطقية في الصراع مع الاتحاد السوفياتي. واستفاد الإيرانيون من ذلك كثيرا، فأصبح الرئيس الأمريكي آنذاك، جيمي كارتر، محاصرا بالأسئلة حول الانتهاكات التي كان الناشطون الإيرانيون يعانون كثيرا. وعرف عن كارتر اهتمامه الشخصي المحدود بذلك الموضوع، الأمر الذي ساهم في تخفيف الحماس لبقاء نظام الشاه، الحليف القوي لأمريكا وإحدى الدعامتين لسياستها في الشرق الأوسط. كان المشروع الغربي ينطلق على أساس أن احترام حقوق الإنسان سيؤدي إلى عالم مستقر، أكثر إنسانية، وأقرب للمشروع الغربي الديمقراطي.
ولكن ما مدى واقعية هذه الفرضية؟ هذه الأطروحة تتأسس على فرضية أن احترام حقوق الإنسان سيؤدي لتغير سياسي تدريجي يؤدي لقيام الديمقراطية في بلدان العالم. وربما تحقق شيء من ذلك في دول أوروبا الشرقية التي تمردت لاحقا على الحكم السوفياتي واستفادت من المشروعين الحقوقي والديمقراطي. وسبب ذلك ظاهرة الانتقائية التي يمارسها الغرب الذي أصبح يستخدم حقوق الإنسان سلاحا ضد روسيا والصين وإيران، ويتغاضى عنها في الدول الحليفة كالسعودية والبحرين الأمارات. الثورة الإسلامية في إيران فرضت على الغربيين إعادة النظر في توجهاتهم، فسرعان ما تخلوا عن كلا الأطروحتين. فإذا كان التغير السياسي في دول العالم الثالث، وفق المشروع الغربي، سيتحقق عندما تستطيع الشعوب تقرير مصيرها وانتخاب النظام السياسي الذي ترتئيه، فأن تلكؤها التدريجي في التمسك بالمشروع، مهد الطريق لبديل آخر للتغيير، يتمثل بالمشروع الثوري الذي جسدته ثورة إيران. الغربيون التفتوا لذلك مباشرة فأعادوا تقييم تجربتهم وأولوياتهم وادخلوا تغييرات على إيديولوجيتهم، كل ذلك لمنع قيام الثورات التي أدت لتغيرات جوهرية في دول العالم الثالث، سواء أمريكا اللاتينية أم أوروبا الشرقية. وجاءت ثورات الربيع العربي محرجة للسياسة الغربية لتصبح أكثر إصرارا على منع تغير الأوضاع الراهنة في الدول العربية التي تسير في الفلك الغربي.
مشروع الثورة كأداة للتغيير أصيب بانتكاسات كبيرة في الأربعين عاما الماضية. فما عاد الغربيون يقبلون بها طريقا للتغيير خصوصا بعد أن أصبح الداعون لها «أعداء» للغرب مثل فيدل كاسترو وتشي غيفارا والاتحاد السوفياتي سابقا، وإيران لاحقا. ويوازي ذلك غياب الإرادة الغربية في التمسك بالمشروع السياسي ذي الدعامتين: حقوق الإنسان والديمقراطية. وبشكل تدريجي أصبح الغرب أكثر ميلا لدعم الأنظمة الصديقة وأن كان ذلك على حساب تلك الدعامتين. ولذلك لم يجد الغربيون غضاضة في الإحجام عن دعم مشاريع التحول الديمقراطي، حتى لو تطلب ذلك دعم الأنظمة الموغلة في الاستبداد السياسي وانتهاك حقوق الإنسان. فلم يكن هناك حماس غربي أبدا لثورات الخبز التي اندلعت في الثمانينات في مصر وتونس والمغرب. ودعم الغربيون نظام العسكر في الجزائر عندما انقلب على المشروع الديمقراطي الذي كان في بداياته، بعد الفوز الساحق الذي حققته الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخابات برلمانية في العام 1992. وكان من النتائج التي ترتبت على ذلك الانقلاب مقتل أكثر من مائتي ألف من الجزائريين في السنوات العشر اللاحقة. هنا لم يكن التغيير ناجما عن ثورة بل عن توسع القاعدة الشعبية للحركة الإسلامية الأمر الذي وفر لها نجاحا عبر صناديق الاقتراع، ورفض حكم الجنرالات الذي تميز بالقمع والاستبداد بشكل مفرط. الغربيون لم يقدموا على أية مبادرة لاحتواء ممارسات العسكريين، كما لم يسمحوا لصناديق الاقتراع أن تقرر هوية النظام أو شكله. ولان لدى الغربيين حساسية مفرطة إزاء الثورة كأداة للتغيير، تقلصت طرق التغيير تماما، فأصبح الباب مفتوحا على مصراعيه لمشاريع العنف والعنف المضاد. وشهدت مرحلة التسعينيات بداية ظاهرة الإرهاب التي بدأت محدودة ثم توسعت لتنتشر في كافة أصقاع العالم ولتتحدى «الآخر» أيا كان شكله أو هويته أو دينه أو مذهبه. الغرب مهد لبروز هذه الظاهرة، وربما اعتبرها خيارا أفضل من التغيير الثوري لعلمه أنها لن تتحول إلى مشروع سياسي بديل للمشروع الغربي.
وتجسد النفاق الغربي إزاء مشروع التحول الديمقراطي الذي كان شعاره المفضل في حقبة الحرب الباردة، بموقفه المتخاذل إزاء ثورات الربيع العربي. لقد فوجئ باندلاع تلك الثورات التي كانت تنتشر كالنار في الهشيم في مثل هذه الأيام قبل سبعة أعوام. في بداية الأمر أظهر شيئا من التعاطف مع تلك الثورات، ولكن سرعان ما انحاز إلى قوى الثورة المضادة ورفع الغطاء عن الجماهير التي كانت حاضرة في الميادين بجرأة وحماس وإصرار على التغيير وتحقيق التحول الديمقراطي بأساليب سلمية. وعاد الغرب إلى طبيعته الرافضة لأي تغيير بأسلوب الثورة التي يعتبرها «سلاحا» استخدمه المحور الاشتراكي ضد الأنظمة الاستبدادية الموالية للغرب. وقد احتفى البريطانيون الأسبوع الماضي بمرور مائة عام على «الثورة النسائية» التي طالبت بإعطاء المرأة حقوقها السياسية وفي مقدمتها حق التصويت الانتخابي. ومن الصعب وصف تلك الحركة بـ «الثورة» بل كانت حركة متواصلة تهدف لتحقيق هدف محدود بمشاركة قطاعات نسائية واسعة. وقد فقد بعضهن حياته في المواجهات مع قوات الأمن التي كانت تقوم بتفريق تجمعاتهن. ونجحت تلك الحركة النسائية في تحقيق هدفها الأساسي، وأصبح للمرأة البريطانية حق المشاركة في الممارسة الانتخابية. وما تزال شوارع العواصم الغربية تكتظ بالاحتجاجات والتظاهرات التي ينظمها النشطاء للمطالبة ببعض الحقوق المدنية والسياسية، ولكن لا يمكن تصنيفها ضمن الثورات الهادفة للتغيير الشامل.
النظام الإيراني الحالي يعلم أنه مدين للثورة الكبرى التي قادها الإمام الخميني عندما انطلقت بدايتها في 1963 احتجاجا على صدور قرار عن البرلمان الإيراني يسمح باستثناء الأمريكيين الذين يخدمون في إيران من القضاء الإيراني. وتمثلت حلقتها الأخيرة بالثورة التي استمرت أكثر من عام حتى أسقطت نظام الشاه 1979. ولذلك يشعر هذا النظام بمسؤولية خاصة تفرض عليه دعم الحركات الثورية المطالبة بالتغيير. وها هي الولايات المتحدة وبريطانيا تتدخلان عسكريا في سوريا وتدعمان بعض المجموعات التي تقاتل ضد النظام السوري تارة، وضد بعضها البعض تارة أخرى. وفي الأسبوع الماضي شنت القوات الأمريكية هجوما على مجموعات داعمة للنظام كانت تستهدف مجموعات كردية انفصالية أدى لقتل أكثر من مائة شخص. أليس ذلك تدخلا مباشرا في شؤون بلد آخر؟ ذلك التدخل ليس دعما لمشروع ثوري بل لعمل عسكري متواصل منذ ستة أعوام، أدى لقتل مئات الآلاف من السوريين والمقاتلين الأجانب. هذا الدعم الأمريكي الظاهري إنما يهدف لإحداث توازن استراتيجي مع الروس الذين يدعمون النظام السوري بتدخل عسكري مواز. غير أن القوى الواقفة على جانبي الصراع تدرك استحالة حسم الأزمة إلا ضمن مشروع سياسي يتجسد بحوارات مشتركة بين كافة الفرقاء. أما مشروع التغيير الثوري في سوريا فقد وجهت له ضربات قاتلة سواء بتحويله إلى العنف أم بتدخل القوى الأجنبية لدعمه أو محاربته، أو بخسائر المشاركين فيه المادية والبشرية. أما السعودية فتخوض حربا مدمرة على اليمن، بمشاركة الأمارات والبحرين ودول أخرى، وهو ليس تدخلا فحسب بل احتلال عسكري مقيت.
إن مشروع الثورة الهادف لتحقيق تغير سياسي جوهري في منظومة الحكم ليس ظاهرة جديدة، بل أنه متواصل عبر الزمان والمكان، ويهدف عادة لإنهاء النظام السياسي الاستبدادي واستبداله بنظام حكم آخر يسمح بقدر من الحرية والمساواة والعدل بين المواطنين.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/02/12