لماذا تركيا ضرورة لمحور المقاومة؟
زياد حافظ
السؤال المطروح في عنوان هذه المداخلة قد يبدو غريباً خاصة أن تركيا ساهمت في العدوان الكوني على سورية بشكل أساسي، كما أنها دخلت الأراضي السورية بشكل غير شرعي وتحتلّ أجزاء من المنطقة الشمالية الغربية في سورية، ولأنها ما زالت تناور وتدعم جماعات التعصّب والغلو والتوحّش، وتحاول فرض أجندتها على المحادثات حول مستقبل سورية. فالقراءة المختزلة للمشهد العسكري والسياسي قد تفضي أن تركيا في خانة العداء الكبير لسورية ومن وراء ذلك لمحور المقاومة وما يمثّله. وبالتالي تتوجّب مجابهة تركيا كما تتم مجابهة التحالف المعادي لسورية.
لكن في رأينا يمكن قراءة المشهد من منظور مختلف دون التنكّر للمواقف العدائية لتركيا تجاه سورية. الفرضية الأساسية لقراءة المشهد تكمن في التركيز على البعد الجيوسياسي «للعبة الكبرى» بين روسيا والولايات المتحدة كدول عظمى متنافسة بشكل حاد في منطقة شرق الأوسط وبين الدول الإقليمية المتنافسة المتعدّدة الأجندات والأولويات أي الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا والكيان الصهيوني. في وسط كل ذلك تقف سورية بمفردها ومع حلفائها من قوى شعبية عربية ممثلة الجهة العربية الحقيقية الرافضة للمشاريع الصهيوأميركية في الصراع القائم بين الجبابرة الإقليميين والدوليين.
فتفكيك عناصر المشهد يُفضي إلى أن الصراع الروسي الأميركي له سقف واضح وهو تجنّب المواجهة المباشرة، على الأقل في المدى المنظور. تعرّضت روسيا في الآونة الأخيرة إلى سلسلة هجمات أو مضايقات استنزافية من قبل الولايات المتحدة عبر وكلائها أي جماعات التعصّب والغلو والتوحّش. فمن الهجوم على القاعدة الروسية في مطار الحميميم إلى إسقاط طائرة السوخوي إلى قتل «مقاولين» روس في الشمال الشرقي السوري إلى اتهام روسيا في مجلس الأمن في عرقلة لجنة التحقيق الكيماوية المزعومة، سلسلة من أعمال ومواقف جوهرها أميركي وصهيوني يحاول تخفيف حدّة الهزيمة التي مّني بها التحالف الدولي على سورية. فالغيظ والحنق الأميركي الصهيوني كبير جداً ويمتلكان سلوكهما. فتحميل روسيا مسؤولية إفشال مخطّط التحالف الدولي على سورية هو عنوان المرحلة الحالية والمقبلة للمواجهة. ومع إسقاط طائرة الـ»أف 16» في 10 شباط/فبراير 2018 تزداد الأمور تعقيداً بالنسبة للحلف الصهيوأميركي والعربي التابع له لأن عملية الإسقاط جاءت كصفعة مدوّية للمشاريع الصهيوأميركية.
فكيف يمكن لروسيا ردّ التحرّش بها والمتزايد وكأن الولايات المتحدة تطمح إلى حصول «حماقة» روسية تدفع ثمنها في ارتفاع عدد الضحايا الروس قبل الانتخابات الرئاسية الروسية في الربيع المقبل؟ فالرهان الأميركي هو توريط روسيا في مستنقع سورية للنيل من هيبة الرئيس الروسي تمهيداً لإسقاطه في حد أقصى أو لإذلاله في حدّ أدنى. ما لا يفهمه الطرف الأميركي أن كل استفزاز لروسيا يزيد من شعبية الرئيس الروسي. فمن هذه الناحية هو مرتاح بشكل كبير. في رأينا سيكون الردّ روسيا عبر تحفيز تركيا في التصعيد ضد حلفاء الولايات المتحدة في المشهد السوري وبالتحديد مع الأكراد، ووضع الولايات المتحدة بين مطرقة التمسّك بالأكراد وسندانة خسارة تركيا كركيزة أساسية في الحلف الأطلسي. هذا هو جوهر «اللعبة الطويلة» أو «اللعبة الكبرى».
فإن تخلّت الولايات المتحدة عن الأكراد للحفاظ على تركيا ستفقد الولايات المتحدة مصداقيتها، وكل ما تبقّى لها من وكلاء تستطيع توكيلهم نيابة عنها بالحرب على روسيا والدولة السورية وعلى الجمهورية الإسلامية والمقاومة. فيصبح البديل عن ذلك التدخّل المباشر وبكثافة في الميدان السوري أسوة بما فعلت في العراق عام 2003. لكن هذا الخيار غير متاح للإدارة الأميركية لا سياسياً ولا عسكرياً ولا اقتصادياً. فالوضع الأميركي السياسي الداخلي والخارجي في الحضيض كما أن الجهوزية الأميركية ونوعية سلاحها أصبحت مسألة فيها وجهة نظر، وفقاً لدراسات عديدة وباعترافات القيادات العسكرية الأميركية أمام الكونغرس الأميركي. أما على الصعيد الاقتصادي فالبلطجة الأميركية للاستيلاء على الأموال العربية في الجزيرة العربية وعلى النفط في بلاد الرافدين وبلاد الشام دليل إضافي على «حاجة» وعلى «ضيق» مالي كرّستها الموازنة التي أقرّتها الإدارة الأميريكة والعجز الذي وصل إلى رقم قياسي تجاوز التريليون دولار.
القمة الثلاثية المرتقبة في استطمبول والتي ستجمع كلاً من الرؤساء التركي أردوغان والروسي بوتين والإيراني روحاني تعزّزت دلالاتها بعد إسقاط طائرة الـ»إف 16» وبعد محاولة وزير الخارجية الأميركي تيلرسون غير الناجحة استرضاء أردوغان في الموضوع الكردي شمال شرق سورية. القمة بحدّ ذاتها دلالة على استمرار الرئيس التركي بالتوجّه نحو الشرق رغم كل الألاعيب والمناورات التي قام بها بحق اتفاقات آستانة ومؤتمر سوتشي، وحتى دخوله إلى سورية رغم الامتعاض الروسي والإيراني والرفض القاطع السوري. المهمة التي تقع على عاتق الروس والإيرانيين هي دفع الأتراك إلى المحور الروسي الإيراني والخروج، التدريجي أو المفاجئ، من الحلف الأطلسي. «اللعبة الكبيرة» هذه المرة لم تعد أفغانستان القرن التاسع عشر والقرن العشرين بل تركيا. الكنز الاستراتيجي للمحور الروسي الإيراني هو خروج تركيا من الأطلسي وإن تكن كلفة الخروج تضحيات كبيرة تدفعها سورية في المدى القصير، ولكن ستعوّضه فيما بعد مع استثمار حقول الغاز. ففي ريف حمص يوجد وفقاً لتقارير عدة ما يوازي ثُمن 1/8 الاحتياط العالمي للغاز ما سيجعلها قوة عظمى منتجة للغاز. فالثمن الاستراتيجي التي سيربحه المحور الروسي الإيراني وحتى محور المقاومة بعد خروج تركيا من الحلف الأطلسي، هو فقدان الأخير ركيزة أساسية له في جنوب روسيا وعلى أبواب البحر الأسود وشرق البحر المتوسط. فبحر قزوين قد يمتد سياسياً وعسكرياً عندئذ إلى المتوسط والأسود وفيما بعد إلى البحر الأحمر.
خروج تركيا من الأطلسي في الحدّ الأقصى أو تحييد دورها في ذلك الحلف في الحد الأدنى، سيضعف تركيا في استمرار عدائها لسورية. كما أنه يُعجّل ويُكرّس خروج الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط. فخروج أو تحييد الولايات المتحدة من المنطقة سيعزّز نفوذ روسيا وإيران وبالتالي سيؤثّر على سلوك تركيا. لكن هذه العملية ليست بالسهلة وبالتأكيد ليست تلقائية. المجهود الذي يجب أن يُبذل تجاه تركيا سيكون كبيراً ومستديماً وإلاّ لعاد أردوغان إلى مناوراته. فإلى حد ما أصبحت تلك المناورات أوراقاً كشفها أو حرقها أردوغان، ودخلت فيما بعد في الحسبان عند كل من روسيا وإيران. وبالتالي خطر الخديعة والمراوغة التركية يوجب عليهما التحضير لمنعها أو تحييدها. خروج تركيا يتطلّب حوافز اقتصادية وسياسية لمواجهة الضغوط الداخلية التركية المرتبطة بالولايات المتحدة. أما احتمال خروج أردوغان من السلطة فهو احتمال ضئيل في المدى المنظور، ولكن غير مستحيل.
من وجهة نظرنا الجيوسياسية نعتقد أن العمل على إخراج تركيا من الحلف الأطلسي مكسب للمحور العربي المقاوم. كما أن تركيا جزء مما نعتقده الكتلة التاريخية التي ننادي بها في المؤتمر القومي العربي عبر التشبيك بين كل من إيران وتركيا والعرب على قاعدة الندّية والتكامل، وليس على قاعدة التعالي والتنافس. فهذا التشبيك يُعيد التوازن إلى المنطقة الذي فقدته بعد سقوط الدولة العثمانية، ودخول الاستعمار الأوروبي إلى المشرق العربي بعد استكمال استعمار وادي النيل والمغرب الكبير، وأخيراً بعد زرع الكيان الصهيوني في قلب المشرق العربي. التشبيك سيحصّن دول المنطقة في وجه المطامع التاريخية القديمة أو الجديدة التي قد تأتي من الغرب أو الشمال أو حتى الشرق. فالعرب يشكّلون العمق الاستراتيجي لكل من إيران وتركيا كما أن الدولتين تشكّلان عمقاً استراتيجياً أيضاً لعرب القارة الآسيوية والأفريقية. هذا ما يجب أن نعمل على ترسيخه عند النخب المثقفة والقريبة من سلطة القرار في كلّ من الجمهورية الإسلامية في إيران وفي تركيا.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/02/20