دور الشرطي بين الأمن والسياسة
د. سعيد الشهابي
رغم الجهود الكبيرة التي بذلت عبر العقود لتغيير صورة «الشرطي» في الاذهان ما تزال تلك الصورة مرتبطة بالردع الذي يصل إلى مستوى القمع أحيانا. هذه الصورة النمطية لاتزال ترسم في اللاشعور صورة ذلك الشخص الذي يبدو أحيانا فوق القانون برغم الفرضية القائلة بأنه الجهة المخولة بإنفاذ القانون واحترامه. وفي المجتمعات الغربية تواصل السعي لتحسين تلك الصورة لدى الرأي العام، وتم تغيير التسميات أحيانا، فهناك «شرطة المجتمع» و «شرطة الجالية». ولكن على الطرف الآخر هناك صورة الشرطي الذي يعتقل ويضع القيد في يدي الفرد المتهم. بل إن أجهزة الاستخبارات أحيانا تتخفى وراء صورة الشرطي، فيقدم المحقق نفسه بأنه «شرطي» وليس أكثر من ذلك. مهمة الشرطي المعروفة ترتبط بالحفاظ على الأمن العام وإنفاذ حكم القانون ومنع الجريمة وتعقب الخارجين على القانون. وعندما تنتشر الجريمة في مجتمع يصبح وجود الشرطي وهو يتجول في الأحياء ليس محبوبة حسب بل مطلوبة أيضا. فمثلا تشهد العاصمة البريطانية في الفترة الأخيرة تصاعدا لظاهرة القتل التي وصلت إلى أكثر من 60 حالة منذ بداية هذا العام. يمارس هذه الجريمة مجموعات من الشباب المراهقين الذين يستخدمون في أغلب الحالات سكاكين يحملونها حتى في الحقائب المدرسية. هنا يصبح وجود الشرطي في الشارع عاملا مطمئنا للآباء والامهات الذين أصبح القلق على أبنائهم يساورهم ليلا ونهارا. كما أن ارتفاع معدلات السرقة واقتحام المنازل ظاهرة مقلقة تدفع للمطالبة بزيادة أعداد الشرطة.
وإذا كانت الصورة النمطية للشرطي ترتبط بالمجتمع، إلا أنها على مستوى الدول لها مدلولات أخرى. هنا تسمح بعض الدول لنفسها بمهمة القيام بدور «الشرطي» الإقليمي أو الدولي. ولكن الأخطر عندما يتحول النظام السياسي إلى نظام قمعي فيوصف بأنه «نظام بوليسي». ومن المؤكد أن «الدولة البوليسية» ليس ما يتطلع إليه البشر، وإن كان النظام السياسي الدولي في الحقبة الأخيرة يتجه نحو ذلك. فهناك خشية كبيرة، حتى في المجتمعات الغربية، من قمع الحريات العامة ومصادرة الحقوق المدنية والتراخي في مجال احترام حقوق الإنسان. ولذلك يحذر المفكرون والمثقفون من التوجه نحو «الدولة البوليسية» التي وصفها الكاتب البريطاني، جورج اوريل قبل سبعين عاما بأنها دولة «الأخ الأكبر» الذي يرصد حركات الناس وسكناتهم في كل زاوية. وحين تسعى دولة ما لفرض سيطرتها على المنطقة أو الإقليم وتتجاوز حدودها الإقليمية لتوسع سيطرتها ونفوذها على الآخرين بالقوة، يستخدم مصطلح «الشرطي» لوصف ذلك الدور. وفي السبعينات كان شاه إيران يعتبر «شرطي الخليج» بتخويل من الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت بتسليحه بدون حدود. ومنذ فرض الدولة الصهيونية على المنطقة، أصبحت «إسرائيل» شرطيا على المنطقة تعمل بالوكالة عن أمريكا وتقوم بحماية مصالحها. واليوم أصبحت الولايات المتحدة وبريطانيا تمارسان هذا الدور على الصعيد الدولي. فواشنطن تعتبر نفسها مسؤولة عن فرض «النظام» العالمي، فتتدخل بالقوة تارة في الصومال، وأخرى في أفغانستان وثالثة في العراق، وأخيرا في سوريا. وربما تستعد لاستهداف إيران. وهنا أصبحت الولايات المتحدة «شرطي العالم» بتخويل ذاتي ينطلق من الشعور بالقوة المفرطة في غياب إرادة دولية لاحتواء ذلك الشعور.
وقد لوحظ في السنوات الأخيرة بروز بلدين يسعيان لأداء دور الشرطي نيابة عن أمريكا، مع بقاء «إسرائيل» قوة احتياطية تساهم في ذلك الدور بتوفير الدعم الأمني والتخطيط والتوجيه والرصد، ولا تتدخل إلا في الحالات التي لا تستطيع القوى الأخرى أداء دور فاعل فيها. وأصبح المشهد أكثر وضوحا بعد الضربة الجوية التي وجهت إلى سوريا الأسبوع الماضي. فهناك ميل من إدارة ترامب لسحب القوات الأمريكية من سوريا خفضا للتكاليف وحفظا لسلامة الجنود، واتقاء لغضب المجموعات الإرهابية التي تستهدف الولايات المتحدة وتهدد بأعمال إرهابية ضدها. فما تزال حوادث 11 سبتمبر/ايلول ماثلة في أذهان الأمريكيين، ويسعون لمنع تكررها بالابتعاد عن إثارة تلك المجموعات. وقد فاجأت إدارة ترامب الكثيرين عندما دعت السعودية والإمارات للتدخل العسكري في سوريا بعد سحب القوات الأمريكية. وأعلن وزير خارجية السعودية مؤخرا عن استعداد بلاده للقيام بذلك. هذا يعني أن السعودية سوف توسع تدخلاتها العسكرية خارج الحدود، في الوقت الذي تسعى فيه للخروج من ورطتها في اليمن. لقد انطلقت في حربها على اليمن على أساس أنها تسعى للحفاظ على ما تعتبره «توازنا» فرضته «المبادرة الخليجية» التي كانت إحدى وسائل احتواء ثورات «الربيع العربي». إنه دور بوليسي لأن السعودية لا يحق لها التدخل في اليمن أو البحرين أو سواهما بالشكل الذي حدث. وحين تسعى لفرض أجندتها السياسية وعلاقاتها مع الآخرين على بقية دول مجلس التعاون، فإنها توسع دور «الشرطي» الذي يفرض نفسه رقيبا على الآخرين ويتدخل لضمان التزامهم بما يراه. وهذا ما فعلته السعودية (ومعها الإمارات) مع دولة قطر. والأمر نفسه ينطبق على الدور الإماراتي خارج الحدود. فهذا البلد الصغير الذي لا يصل تعداد سكانه الأصليين مليونا، أصبح يمارس دور الشرطي في العديد من المناطق. فقد تدخلت عسكريا في البحرين وما تزال تشارك في العدوان على اليمن. ولضمان أداء دور الشرطي الدولي، أصبحت الإمارات تسعى للسيطرة على مضيق باب المندب. واستخدمت الأموال النفطية والتدخل العسكري للسيطرة على جزيرة سوقطرة اليمنية وموانيء مصوع واسمرة والمكلا. وبعد مقتل الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، العام الماضي، جاءت بابن اخيه، طارق صالح، وقامت بتشكيل مجموعات مسلحة تحت قيادته. ولدى الإمارات خطة لاستقدام آلاف الجنود الأوغنديين وإدخالهم إلى منطقة باب المندب ووضعهم تحت قيادة طارق صالح الذي أنيطت له مهمة السيطرة على ميناء الحديدة اليمني لتكتمل سيطرتها على باب المندب. هذا الميناء سيكون آخر الموانيء القريبة من باب المندب التي بقيت خارج سيطرة الإمارات. المفارقة أن الإمارات أصبحت أكبر دولة في العالم تعتمد على المرتزقة الأجانب لضمان أمنها الداخلي وتمكينها من ممارسة دور «الشرطي» في الخليج والبحر العربي والبحر الأحمر. والواضح أن الولايات المتحدة تمارس سياسة التمكين لكل من السعودية والإمارات ومصر للتواجد في نقاط التماس الساخنة، تحت إشراف إسرائيلي، خصوصا في سوريا واليمن ومصر. دور «الشرطي» هذا سيمتد إلى العراق أيضا بعد أن استدرجت حكومة بغداد لتطبيع العلاقات مع السعودية والإمارات.
ربما كان لدور «الشرطي» سابقا أثر كبير في مجالات الأمن وبسط النفوذ وكسب الشهرة وكذلك ضمان الدعم الأمريكي. ولكن أمن الدول التي تقوم به ليس مضمونا. فأمريكا التي تخلت عن الشاه، الذي كان شرطي الخليج بلا منازع، لن تتردد في التخلي عن حلفائها إذا عجزوا عن أداء الدور. هؤلاء الحلفاء تنتمي بلدانهم وشعوبهم إلى أمة مخدرة في الوقت الحاضر ولكنها ستنهض وتدافع عن وجودها وتحمي مصالحها. ومع أن دور «الشرطي» هذا قد غاب تماما عندما وجهت البنادق الإسرائيلية إلى صدور الفلسطينيين المشاركين في تظاهرات «العودة» فلم تردع القوات المعتدية التي قتلت بدون وازع أو خوف من عقوبة، إلا أن دوره مطلوب في مناطق أخرى خصوصا اليمن ومصر وجنوب البحر الأحمر، وحتى في الخليج. ولقد أخطأت الإمارات في دورها التوسعي الذي أوصلها إلى مكانة «الشرطي» الإقليمي، لأنه توسع معتمد على القوة المالية فحسب، وهو عامل لا يمكن التعويل عليه في المدى المتوسط والبعيد. فإذا كانت أمريكا قد أدركت صعوبة ممارسة هذا الدور سياسيا واقتصاديا فإن الرياض وأبوظبي لن تكونا في وضع أفضل. وليس من الحكمة في شيء توسعهما المفرط بهذا المستوى، فذلك مسموح به من قبل الكيان الإسرائيلي وأمريكا طالما كان يخدم المصالح الإسرائيلية، ولكن سرعان ما سينقلب عليهما فور تغير الظروف واسترداد الشعوب وعيها وإرادتها وسلطتها الأخلاقية والسياسية. إن المال وحده لا يخلق ظاهرة «الشرطي الإقليمي»، خصوصا مع وجود قوى إقليمية كبرى مثل إيران ومصر والعراق، وقد سقط من مارس هذا الدور سابقا ولن يكون أفضل حظا في المستقبل.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/04/23