أمريكا: التفوق العسكري الإسرائيلي ونزع سلاح معارضيها
د. سعيد الشهابي
ظاهرة «الأمركة» أو «التأمرك في العالم العربي توسعت كثيرا في الحقبة الأخيرة، وفي ذلك مؤشر لمدى تراجع الوعي السياسي والاجتماعي من جهة، ومدى فاعلية أصحاب الإيديولوجيات السياسية والفكرية في توجيه الرأي العام من جهة أخرى. هذا التوسع لازمه تلاشي المناعة ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين مصحوبا بالهرولة للتطبيع معه من قبل بعض الأنظمة العربية. فعلى مدى العقود السبعة الماضية، وهو عمر ذلك الاحتلال الغاشم، كانت فلسطين وقضيتها مصدر وعي الجماهير العربية والإسلامية، وتصدرت حركات التحرر الوطني التي انتشرت في بلدان العالم الثالث التي كان الكثير منها تحت الاستعمار. فما من حركة تحررية إلا وكانت داعمة للنضال الفلسطيني، وربما تواصلت مع منظمة التحرير بشكل أو آخر. بل أن مناضلين دوليين ارتبطت اسماؤهم بالقضية مثل كارلوس الذي يرزح في أحد السجون الفرنسية منذ أن سلمه السودان لفرنسا في 1994.
وطوال تلك العقود ارتبط اسم أمريكا بالتواطؤ مع الاحتلال، خصوصا أن الولايات المتحدة التزمت مبدأ ما تزال تعمل به، يقضي بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط. ويمكن القول أن واشنطن ربطت سياستها في المنطقة بوجود الكيان الإسرائيلي، واعتبرته خط الدفاع الأول عن مصالحها. ولم تكن أمريكا تتدخل عسكريا بشكل مباشر لأن «إسرائيل» كانت تتكفل بذلك. ولكن موازين القوى في المنطقة تغيرت منذ قيام النظام الإسلامي في إيران في 1979 الذي انحاز بشكل واضح إلى القضية الفلسطينية وقطع علاقات إيران بالكيان الإسرائيلي. وخلال السنوات العشر الأولى من التغير السياسي في إيران بقيت «إسرائيل» في موقعها التقليدي الذي تميز بالتفوق العسكري الكبير. ولكن دخول العراق للكويت في أب/أغسطس 1990 خلق واقعا جديدا دفع الولايات المتحدة للتدخل المباشر لمواجهة القوات العراقية ومنع تغير ميزان القوى.
ونظرا للوعي التاريخي لدى الجماهير العربية فقد أدركت واشنطن خطر أي تدخل إسرائيلي في الصراع آنذاك. فتدخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر وحدثت الحرب في شباط /فبراير وآذار/مارس 1991 التي فتحت الباب الأمريكي للتدخلات العسكرية بعد إحجام امتد منذ حرب فيتنام التي ألحقت بسمعة أمريكا ضررا كبيرا. ومنذ ذلك الوقت أدركت أمريكا أن «إسرائيل» لم تعد خط الدفاع الأول عن المصالح الأمريكية لأن هناك مناوئين كبارا من جهة ولأن الوعي الجماهيري كان يرفض التناغم مع الوجود الإسرائيلي.
في العامين الأخيرين عمدت واشنطن لتغيير سياستها في المنطقة، واستطاعت عبر وسائل عديدة (الطائفية، التطرف، الإرهاب، دعم قوى الثورة المضادة) شيطنة إيران والقوى المقاومة للاحتلال والقضاء على الحساسية المفرطة ضد الوجود الأمريكي.
وكان الانقلاب داخل البيت السعودي المدخل لهذا التغير. فقد أدى لقيام تحالف جديد بمشاركة مصر إلى جانب السعودية والإمارات والبحرين، لتنفيذ المشروع الأمريكي في المنطقة. فجاء تطبيع العلاقة بين هذا التحالف والكيان الإسرائيلي خطوة متقدمة تهدف لإنهاء عقود من التوتر في العلاقات من جهة، ولإبعاد الكيان الإسرائيلي كهدف لقوى التحرر العربية والإسلامية من جهة أخرى. وعبر الوسائل المذكورة تمكنت تلك القوى من تهميش القضايا الجوهرية في العالم العربي وفي مقدمتها تحرير فلسطين والتصدي للدور الإسرائيلي وتهميش الهيمنة الأمريكية على المنطقة، بالإضافة لاحتواء نزعة الشعوب نحو الحرية والتحول الديمقراطي. فلم تمر على الأمة حقبة كهذه من حيث ظاهرة العمالة المكشوفة للأجنبي، والاعتماد عليه للتعاطي مع التحديات الأمنية المنطقة من الداخل، وانعدام الحساسية إزاء الممارسات الإسرائيلية، وتكلس المشاعر الإنسانية تجاه ظواهر القتل سواء التي تمارسها المجموعات الإرهابية أم «إسرائيل». غياب هذه المشاعر يعتبر انجازا كبيرا لقوى الثورة المضادة، وعاملا يحول دون انفجار مشاعر الغضب والرغبة في التحرير، وانشغال الأنظمة العربية ببعضها وتوتر العلاقات في ما بينها. وتعول الجهات التي تخطط لاستباحة المنطقة على غياب الدور الجماهيري عن ساحات الصراع وانشغال أنظمتها السياسية بما هو هامشي ومحلي ولحظي.
مشروع ترامب يهدف للحفاظ على إبقاء التوازن العسكري مرجحا للكيان الإسرائيلي استمرارا لسياسة واشنطن التقليدية. ولكن ثورات الربيع العربي كشفت أن حلفاء آخرين أصبحوا مهددين بالوعي الجماهيري كما هي «إسرائيل» وأن عليها تأمين وجود هذه القوى خصوصا مصر والسعودية. ولم تخف أمريكا امتعاضها يوما من السياسة الإيرانية التي جعلت فلسطين محورا أساسيا في سياساتها الخارجية منذ 1979. وطوال العقود الأربعة الماضية اشتملت الإستراتيجية الأمريكية على محور مهم: تحجيم الدور الإيراني خصوصا في قضية فلسطين، ومنع امتلاكها أسلحة تمكنها من تحقيق تفوق عسكري إقليمي. وقد تعرضت إيران لحصار استمر أربعة عقود حال دون حصولها على أية أسلحة ثقيلة، بل أن هذا الحصار حال دون حصولها على قطع غيار لأسطولها الجوي المدني الذي يبلغ عمر بعض طائراته أكثر من 40 عاما.
وبرغم توقيع الاتفاق النووي قبل أربعة أعوام، إلا أن الحصار بقي مفروضا بشكل عام، الأمر الذي اضعف موقف حكومة الرئيس روحاني التي وقعت الاتفاق، كما اضعف الاقتصاد كثيرا حتى تراجع سعر العملة الإيرانية هذا الشهر إلى مستويات قياسية. فما دامت الجمهورية الإسلامية ترفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وما دامت تتصدر «محور المقاومة» فستبقى تحت الحصار. ومنذ أن وصل ترامب إلى الرئاسة لم تتوقف الضغوط هنا. بل انه عمد لإلغاء الاتفاق النووي ويعتزم تشديد الحصار الذي قال عنه وزير خارجيته، بومبيو، الأسبوع الماضي انه سيكون «الأشد من نوعه». هذا التوجه الأمريكي، برغم أنه ينسجم مع طبيعة ترامب وتوجهاته وتعصبه، إلا أن التشجيع عليه جاء من ثلاث جهات أساسية: السعودية والإمارات و«إسرائيل».
استهداف الجهات المناوئة لـ «إسرائيل» لم يقتصر على إيران، بل أن قطر هي الأخرى أصبحت في فوهة المدفع، بسبب علاقاتها مع الإخوان المسلمين ومنظمة حماس، بالإضافة لتركيا. فقد شن تحالف قوى الثورة المضادة (الذي يضم دولا من بينها «إسرائيل» والسعودية والإمارات ومصر والبحرين) حملة على قطر انتهت بقطع العلاقات معها من قبل دول هذا التحالف. وإذا كانت علاقاتها بالجهات المذكورة من بين أسباب هذا الحصار، فثمة بعد آخر يتمثل برغبة أمريكا في إخضاع العالم العربي لقيادة سياسية يمثلها هذا التحالف. ففي الوقت الذي تتهم فيه إيران بدعم مجموعات المقاومة مثل حزب الله وحماس فإنها تغض الطرف عن السياسة التوسعية لدى الإمارات، وهي دولة صغيرة، حديثة التكوين وصغيرة الحجم. ولكنها تمارس دورا يفوق حجمها كثيرا. فهي تشارك في احتلال اليمن الذي يفوقها حضارة ومساحة وسكانا. وتسيطر على ميناء عدن بشكل كامل، وتتعامل مع اليمن كبلد خاضع لسيطرتها، فتدرب بعضهم ليكون ذراعا عسكريا لها، وتسعى لفصل الجنوب عن الشمال. وتحتل جزيرة سوقطرى الإستراتيجية، وتسيطر على موانئ عديدة في القرن الأفريقي مثل بربرة ومصوع وأسمرة. ودفعت أموالا طائلة لما يسمى جمهورية ارض الصومال، فتقوم بتدريب جنودها بعد أن أنشأت لها قاعدة عسكرية هناك. أمريكا لم تعترض على أي من تلك الخطوات، بينما تذكر من بين مبررات الانسحاب من الاتفاق النووي تعاون إيران مع المجموعات التي تقاوم «إسرائيل». القضية هنا أن الولايات المتحدة أصبحت أداة لخدمة السياسات الإسرائيلية. وبلغ تداعي الأمور على الصعيدين العربي والإسلامي أن تقوم أمريكا بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة بدون أن تواجه أية معارضة حقيقية سواء من الحكومات أم الشعوب. وقد شجعها ذلك على إعلان عزمها على الاعتراف بسيادة «إسرائيل» على منطقة الجولان السورية التي احتلتها في حرب 1967. هذا في الوقت الذي تواصل فيه قوات الاحتلال التوسع في بناء المستوطنات، وتعتزم بناء 2500 وحدة استيطانية في الضفة الغربية. وكتب وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان يوم الخميس الماضي تغريدة على حسابه في تويتر: «التزمنا بتسريع عمليات البناء في الضفة الغربية، وها نحن نفي بوعودنا. 2500 وحدة سكنية جديدة سنصادق عليها الأسبوع القادم في مجلس التخطيط من أجل البناء الفوري في عام 2018».
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/05/28