في سوريا كما غزة المواجهة أكرم من المساومة
د. عصام نعمان
من الواضح أن دمشق قررت تحريك الجيش السوري جنوباً لتحرير محافظتي القنيطرة ودرعا من جيوبٍ لفصائل إرهابية مازالت متمركزة فيهما. دمشق ترسملت على انتصاراتها الأخيرة في غوطتها الشرقية ونجاحها في تنظيف محيط العاصمة من الإرهابيين لمواصلة تحرير ما تبقّى من مناطق محتلة.
عودة الجيش السوري إلى خطوط وقف إطلاق النار في الجولان يُقلق حكومة إسرائيل، بعدما تأكّدت أن روسيا تدعم سوريا في تحركها التحريري والسيادي. وزير حربها أفيغدور ليبرمان سارع إلى موسكو لبحث المسألة مع وزير دفاعها سيرغي شويغو. الصحف الإسرائيلية إدّعت أن شويغو قدّم لليبرمان عرضاً: تمكين الجيش السوري من العودة إلى مواقعه السابقة للحرب في الجولان، مقابل إزالة مواقع إيران العسكرية وقوات حزب الله في المنطقة المحيطة بنقاط تمركز الجيش السوري بعمق 70 كيلومتراً.
بنيامين نتنياهو أبلغ وزير حربه رفضه العرض الروسي. ذلك أن ما يبتغيه هو صفقة أوسع وأشمل، إزالة كل قواعد إيران العسكرية في سوريا، وإخراج قوات حزب الله وسائر فصائل المقاومة التي تدعم الجيش السوري في حملته على التنظيمات الإرهابية في البلاد.
إسرائيل، كما أمريكا، إبتأستا لنجاح الجيش السوري في طرد الإرهابيين المتعاونين معهما من محيط دمشق، كما من جيوب ومواقع في ارياف حمص وحماة وحلب. من الواضح أن تل أبيب وواشنطن تريدان إبقاء الحرب في سوريا وعليها متّقدة بغية استنزافها وإنهاكها. لتحقيق أغراضها السياسية والاستراتيجية، لجأت تل أبيب إلى المناورات والمقاربات الآتية:
*محاولة «إغراء» دمشق، عبر موسكو، باستعدادها للتخلي عن دعم الفصائل الإرهابية في جنوب سوريا لتمكين الجيش السوري من استعادة مواقعه في الجولان ما يمكن القوات الدولية من استعادة مواقع تمركزها في المنطقة عينها.
*التشديد على الأردن، عبر واشنطن، بوجوب الامتناع عن فتح معبر نصيب الحدودي مع سوريا، إلاّ في إطار تفاهم متكامل يتمّ بالتوافق بين أمريكا وروسيا وإسرائيل على مستقبل الوضع في سوريا.
*التلويح بمساعٍ تبذلها إسرائيل للحصول على اعترافٍ من أمريكا بسيادتها على الجولان المحتل، بغية مضاعفة الضغط على دمشق للإذعان إلى مطلب إزالة قواعد إيران العسكرية في سوريا، وإخراج قوات حزب الله الرديفة للجيش السوري.
أمريكا دعمت سياسة إسرائيل في وجه سوريا باعتماد المواقف الآتية:
*إبقاء قواتها في قاعدة التنف قرب الحدود السورية – العراقية، بدعوى ضرورة متابعة الحرب ضد «داعش» في شرق نهر الفرات.
*دعم قوات سوريا الديمقراطية «قسد» التي تقودها «قوات حماية الشعب الكردي» المتحالفة مع أمريكا وإعدادها لتلعب دوراً في عملية تفكيك سوريا إلى كيانات سياسية منفصلة عن الحكومة المركزية السورية، في سياق عملية الضغط عليها للقبول بطلبات إسرائيل سالفة الذكر.
*التلويح بإمكانية موافقتها على طلب إسرائيل الاعتراف بسيادتها على الجولان المحتل في سياق الضغوط عينها.
لا تبدو موسكو متجاوبة مع طلبات إسرائيل أو ضغوطها، وإن كانت تحبذ اغتنام سيطرة الجيش السوري على معظم المناطق التي كانت تحت سيطرة «داعش» والنصرة»، من أجل تعزيز المساعي الهادفة إلى إجراء مفاوضات بين الأطراف السوريين للتوافق على تسوية سياسية للأزمة. لكن يمكن الجزم بأن موسكو لن توافق على أي ترتيبات مع واشنطن أو تل أبيب من شأنها المسّ بوحدة سوريا وسيادتها.
إزاء هذا الوضع، ماذا تراه يكون موقف دمشق؟
يُستفاد من مقابلةٍ أجراها تلفزيون «روسيا اليوم» مع الرئيس بشار الأسد أنه عاقد العزم على:
*دفع الجيش السوري للسيطرة على جميع المناطق التي ما زالت خارج السيادة السورية في جنوب البلاد وشمالها وشرقها.
*التفاوض مع قادة الكرد السوريين للتوصل إلى تسوية تصون سيادة سوريا على كامل ترابها الوطني، وإذا رفضوا فإنه لن يتردد في استعمال القوة لتحقيق هذا الهدف.
*رفض مطلب إخراج قوات إيران المتواجدة في سوريا بترخيص منها، كونه أمراً سيادياً يخصّ دمشق وحدها، مع التشديد على أن لا قوات إيرانية في البلاد، بل مجرد ضباط يعملون بصفة مستشارين لدى الجيش السوري.
*رفض الضغوط الأمريكية، ومن ضمنها تمسك واشنطن بإبقاء قواتها في منطقة التنف الحدودية، وقد أكد وزير الخارجية وليد المعلم ضرورة انسحابها كشرط للبحث في اتفاق بشأن الوضع في جنوب سوريا.
*عدم الاكتراث بتلويح تل أبيب بموافقة واشنطن على الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل، كون سوريا متمسكة بموقفها الثابت برفض الاحتلال ومفاعيله السياسية، والتصميم على استعادة جميع الأراضي المحتلة بكل الوسائل المتاحة، عاجلاً أو آجلاً.
ماذا يمكننا أن نستخلص ونستشرف من مجمل المعطيات والتطورات المبيّنة آنفاً؟
أرى، وربما غيري كثيرون، أن المواجهة أكرم من المساومة في صراعنا مع العدو الصهيوأمريكي. المواجهة أكرم، بمعنى أشرف وأسخى وأجدى، من المساومة ولاسيما في سوريا وغزة. ذلك أن موازين القوى بيننا وبين العدو تميل ببطء لكن بثبات لصالحنا.
باختصار، لنبدأ برأس الحربة، أمريكا. لعل ما ينطبق عليها بدقةٍ اليوم هو نظريةُ المؤرخ البريطاني المرموق بول كنيدي في كتابه الأشهر «صعود وسقوط القوى العظمى»، يرى كنيدي أن الدول العظمى في التاريخ سقطت جرّاء عجزها عن الوفاء بالتزاماتها الخارجية الواسعة، المادية، المتشعبة والمرهقة.
أمريكا تنوء اليوم بدين داخلي بعشرات تريليونات الدولارات، وتعاني عجزاً في موازين التبادل التجاري مع الصين واليابان وأوروبا، وتتحمل نفقات بمليارات الدولارات لنحو ألف قاعدة عسكرية في العالم بلا مردود سياسي واقتصادي مجزٍ، وتخوض حرباً تجارية مع دول عدّة، حليفة أو منافسة، الأمر الذي يُضعف جهودها ويضاعف موجباتها ويُكثر خصومها على جبهات عدّة.
إسرائيل تعيش في الوقت الحاضر مآزق عدّة، سياسية وعسكرية واقتصادية، تخشى من تنامي قدرات إيران التكنولوجية والعسكرية واتساع نفوذها وتأثيرها، وتقلق لانعكاسات دعمها المتعاظم لفصائل المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن، ومخاطر اندلاع الحرب على جبهتي غزة ولبنان، في أن مع ما يمكن أن تتسبّب به من خسائر هائلة في مرافقها الحيوية، ولاسيما في منشآتها النفطية البحرية، ناهيك عن تداعيات التفوق الديموغرافي الفلسطيني على حاضر الكيان الصهيوني ومستقبله.
صحيح أن بلاد العرب معتلّة بصورة عامة، ولاسيما الأقطار المحيطة بإسرائيل، لكن القوى الحية المتمثلة بحركات المقاومة تبدو فاعلة وقادرة على تفعيل عملية إنهاض جدّية وواعدة. إلى ذلك، لا يبدو أن ثمة خياراً آخر بديلاً ومجدياً. فنهج التنازل وعقد الاتفاقات التسووية لم يؤدِ إلى أي نتيجة مجدية، بل تسبّب بمزيد من التراجعات والتنازلات، ذلك أن العنصرية والغطرسة اللتين تمكّنتا من العدو الصهيوني جعلتاه عاجزاً عن تقديم تنازلات أو الوفاء بالتزامات محسوسة.
هكذا أصبحت المقاومة عندنا غاية ووسيلة.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/06/04