صراع القيم والمصالح في الصراع على اليمن
د. سعيد الشهابي
قد لا يؤدي التقرير الذي أصدره خبراء الأمم المتحدة الأسبوع الماضي لوقف فوري للحرب الذي يشنها «التحالف العشري» على اليمن، ولكن من المؤكد أنه سيحدث لغطا في أوساط دولية عديدة خصوصا بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
فالبلدان اعترفا بالتعاون مع المملكة العربية السعودية في مجالات ثلاثة: أولها المعلومات الإستخبارية، ثانيها: الصواريخ والقنابل الموجهة، وثالثها بعض الخبراء في مراكز القيادة والتحكم. وبرغم إصرار الحكومة البريطانية على عدم تدخلها في الحرب إلا أن تعاونها مع السعودية في هذه المجالات الثلاثة يعني مشاركتها بشكل فاعل. الاعتراف البريطاني بهذا «التعاون» جاء على لسان وزيرين: أولهما اللورد هاو، وزير الدولة لشؤون الدفاع بمجلس اللوردات وذلك في شهر تموز/يوليو الماضي، وثانيهما وزير الخارجية، فيليب هاموند الشهر الماضي.
ويمكن القول أن صدور التقرير ستكون له انعكاسات كبيرة في بريطانيا لعدد من الأسباب: أنها استثمرت كثيرا في علاقاتها مع السعودية، بزيارات رسمية على أعلى المستويات، وأنها من أكثر البلدان حساسية تجاه الاتهام بالجرائم الكبرى كالتعذيب وجرائم الحرب، ولا تريد أن تربط سمعتها بالاتهامات التي تحدثت عنها منظمات حقوقية دولية قبل أن تصدر الأمم المتحدة تقريرها المذكور، ثالثها أن لديها معارضة قوية يرأسها شخص معروف بسياسته الرافضة للحرب كمبدأ، ومواقفه السلبية تجاه المملكة العربية السعودية ونظام حكمها.
فرئيس حزب العمال، السيد جيريمي كوربين بدأ رئاسة الحزب العام الماضي بمقال نشرته صحيفة «الغارديان» بعد يوم من فوزه مطالبا بوقف الأسلحة البريطانية عن السعودية والبحرين. ولذلك فما أن صدر التقرير حتى بدأ السجال البريطاني على أشده بين طرفين: المؤسسة البريطانية التي حافظت على علاقات حميمة مع حكام الجزيرة العربية، والمعارضة التي يرأسها جيريمي كوربين والتي أصبحت مصدر قلق كبير للمؤسسة البريطانية. ومع حدوث تغير عميق في المزاج البريطاني في السنوات الأخيرة، لم يعد الخطاب الرسمي قادرا على إقناع الناخبين بحكمة السياسات اليمينية في حقبة العولمة التي ساهمت في تغيير ذلك المزاج بشكل كبير.
التقرير الأممي وثق انتهاكات واسعة ومخالفات كبيرة وواضحة للقانون الدولي من قبل التحالف الذي تقوده السعودية باستهداف الضربات الجوية للمدنيين والمنشآت والمرافق المدنية والخدمية والنوعية المحمية بالقانون الدولي وقوانين الحرب والقوانين الإنسانية.
وكانت منظمات حقوقية وإنسانية قد أصدرت تقارير حول ما تعتبره انتهاكات لمواثيق جنيف التي تنظم إجراءات الحرب بهدف منع التجاوزات على القيم والأخلاق الإنسانية. مع ذلك تواصلت تلك الانتهاكات ليس في اليمن فحسب بل في الحروب الأخرى التي حدثت في العقود الأخيرة، وشاركت فيها قوات أمريكية وحليفة، كحرب الكويت 1991 وحرب العراق 2003.
هذا التناقض بين السياسات المعلنة والممارسات العملية يكشف مدى ضعف القانون الدولي من جهة ومدى افتقاده أدوات التنفيذ والمراقبة والمحاسبة من جهة أخرى. فما دامت الدول الكبرى هي التي تنتهك القوانين التي شاركت في وضعها، فكيف يمكن ضمان احترام تلك القوانين؟
وتجدر الإشارة إلى الحروب التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلية على لبنان وفلسطين، والانتهاكات الفظيعة لحقوق البشر، واستهداف المدنيين بشكل متكرر. وحتى حين صدرت بعض التقارير التي توثق بعض تلك الانتهاكات كالتقرير الذي تطرق لمجزرة «قانا» لم يتم اتخاذ أي إجراء رادع ضد القوات الإسرائيلية. فسياسات القتل والتجويع (ومنها الحصار المفروض على غزة) والاعتقال والتعذيب واستهداف المقدسات، كل ذلك لا يحظى باهتمام. الأمر المؤكد أن الجالية الإنسانية لم تستفد كثيرا من تجاربها المريرة خصوصا في الحربين العالميتين. ويفترض أن تكون مواثيق جنيف التي تطورت على مدى العقود السبعة الأخيرة قادرة على منع التجاوزات، ولكن يتضح تدريجيا غياب الإرادة الدولية للتصدي لتلك الانتهاكات خصوصا إذا ارتكبتها الدول الكبرى أو الأنظمة الصديقة لها.
بعد أكثر من عشرة شهور أصبحت حرب اليمن شهادة دامغة لفشل المجتمع الدولي في إحلال السلام ومنع الصراعات المسلحة برغم وجود بعض الآليات لتحقيق ذلك. أهو غياب الإرادة؟ أم الأطماع الاقتصادية ببيع المزيد من أدوات الموت؟ أم موت الضمير؟ صدر الآن تقرير خبراء الأمم المتحدة، فهل أصبح لدى الدول التي شاركت في الحرب، مباشرة أو من خلف الكواليس، شجاعة الموقف الداعي لوقف الدمار ونزف الدماء.؟ من خلال تصريحات المسؤولين الكبار، لا يبدو الموقف البريطاني مشجعا.
يقول السيد ديفيد ميفام، مدير «هيومن رايتس ووتش» في المملكة المتحدة «إن تصريحات وزير الخارجية فيليب هاموند لمدة عام تقريبا، كشفت أنها مضللة بأنه لا يوجد أي دليل على انتهاكات الحرب من قبل المملكة المتحدة الحليف للسعودية وأعضاء آخرين في التحالف باليمن». وأشار السيد ميفام إلى أن هاموند كرر هذه الادعاءات على الرغم من وثائق المنظمات الدولية لحقوق الإنسان والتي قدمت تفاصيل لحالات متعددة لمثل هذه الانتهاكات.
وللتدليل على ذلك قال إن هيومن رايتس ووتش وثقت 36 من الضربات الجوية التي وصفت بـ «غير المشروعة» من قبل قوات التحالف، وجمعت أسماء 500 مدني قتلوا في تلك الضربات. ولكن ما الذي تستطيع بريطانيا عمله إذا كانت الدول الإقليمية غير راغبة في وقف الحرب؟ المنظمة تقول إن بإمكان بريطانيا الضغط لوقف النزاع المسلح بوسائل عديدة: أولا وقف نقل أي أسلحة أو معدات عسكرية على الفور إلى دول التحالف الأخرى التي تتهم بالانتهاكات التي ذكرها تقرير خبراء الأمم المتحدة. وقد أكد السيد ميفام أن السلطات البريطانية استمرت في منح تراخيص تصدير الأسلحة كالقنابل والصواريخ والقذائف وغيرها إلى المملكة العربية السعودية. وقد بلغت قيمة تلك الصادرات خلال ثلاثة أشهر فقط أكثر من مليار جنيه أسترليني.
ثانيا: ينبغي على المملكة المتحدة إنهاء موقفها المتأرجح بشأن التحقيقات، التي قال عنها هاموند مرارا وتكرارا انه «يؤيد تحقيقات وافية في مزاعم الانتهاكات في قوانين الحرب». ولكن آفاق تلك الإجراءات غير واضحة في ضوء تصريحات مسؤولين بريطانيين كبار على رأسهم رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون. فبدلا من الإعلان عن إجراءات عملية فاعلة، اكتفى توبياس إيلوود وزير الدولة بالخارجية البريطانية بالقول: «سألتزم بالجلوس مع السعوديين في اجتماع رفيع المستوى… وسنتناقش حول المزاعم».
٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/02/03