اغتيال حلم
عبدالنبي العكري
حفر شهر يناير/ كانون الثاني 2011 نفسه في ذاكرة العرب، باعتباره شهر انطلاق رياح الربيع العربي، من تونس ثورة الياسمين إلى باقي أرجاء الوطن العربي من المغرب حتى البحرين، عابراً الحدود المصطنعة، ومعبراً عن تطلعات الشعوب العربية في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، كما عبرت عنها شعارات وهتافات المحتجين بتعبيرات مختلفة من ساحة الفنا في مراكش حتى «دوار اللؤلؤة» في المنامة، وما بينهما في ساحات القصبة بتونس والتحرير في القاهرة، والجامعة بصنعاء، والإرادة في الكويت والعالم في صحار.
كان الوضع العربي سواء في مختلف البلدان أو ما يجمع البلدان العربية في الدرك الأسفل من حيث انحطاط أوضاع الشعوب مقابل تجبر الأنظمة، وانفصامها عن شعوبها. المؤشرات الإيجابية كالحرية والديمقراطية والعيش اللائق والسلم الاجتماعي والسيادة الوطنية في أدناها والمؤشرات السلبية مثل القمع والفقر والإذلال والفساد والانقسامات والبطالة واستباحة الأوطان في أعلاها.
في ظل هذه الأوضاع كان يكفي شرارة واحدة لتشعل الحقل العربي كله وهكذا فجَّر محمد البوعزيزي في مدينة بوزيد التونسية المهمشة، الغضب المتراكم لدى الملايين، وليطلق طاقات الشباب والنساء والمهمشين، في احتجاجات لا سابق لها تراوحت بين الثورة والانتفاضة والحراك والاحتجاج.
القمة العربية كانت ملتئمة في شرم الشيخ بمصر، وحضرها جميع الزعماء العرب أو ممثلوهم عدا الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، المحاصر بالثورة وكان الزعماء العرب في أفضل حالات وئامهم النادر، فلم يناقشوا بوادر الأزمة بل التهوا في التقاط الصور الحميمة التي تجمعهم.
قبلها بأيام كانت الدوحة تشهد مؤتمر منتدى المستقبل والذي حضره بعض وزراء الخارجية العرب ومسئولون كبار في وزارات الخارجية، إضافة إلى وزير الخارجية الفرنسي جوبيه ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلنتون التي ألقت محاضرة، حيث حذرت الحكومات العربية من مغبة ما يجري من أحداث وما يعتمل تحت السطح بقولها «إن كراسيكم تغرق في الرمال». وفي ندوة نادرة لجميع الحاضرين شارك فيها عن المجتمع المدني صلاح الجورشي، صارحهم بحقيقة الأوضاع وخطورتها ولكن وكما يقول المثل «عمك أصمخ»، فقد أخذ الغرور من زعماء الأنظمة العربية التي استطال الحكم فيها إلى عقود كل مأخذ، ولا غرابة فقد خاطب أحدهم شعبه المحتج «من أنتم، أيها الجرذان» والحقيقة كان هذا سلوك معظم الزعماء والأنظمة العربية إلا ما رحم ربي.
لكن الأسوأ هو أنه بدل أن يتناصح الزعماء والحكام العرب فيما بينهم فقد أخذتهم العزة بالأثم، وتضامنوا ودعموا بعضهم البعض ضد شعوبهم حتى انفجرت التناقضات فيما بينهم، فجرى التعامل فيما بينهم بانتقائية وانتقام وتآمر لإسقاط هذا النظام أو دعمه بالمقابل، واستعانوا بالقوى الأجنبية ضد بعضهم البعض ما أعاد إلى ذاكراتنا حروب الطوائف بالأندلس. اليوم وبعد خمس سنوات من انطلاقة الربيع العربي، حيث يكره الكثيرون هذه الصفة ويطلقون عليه «الخريف الوحشي» أو غيره من النعوت، فإن الحصيلة لم تكن متوقعة أيضاً، بل فاقت الكوابيس. وباستثناء تونس حيث عبرت بالكاد المخاطر وتسير في طريق صعب ومتعرج للتحول الديمقراطي، والمغرب حيث المعالجات معقولة ولكن غير كافية، فإن تعاطي الأنظمة إما بالحرب على الشعب بضراوة لا سابق لها، أو بالقمع الممنهج والذي يتخذ كل يوم أبعاداً جديدة. مصائر الثورات والانتفاضات العربية محزنة، فقد جرى عودة الدولة العميقة كما في مصر، أو جرى عسكرتها وبالتالي دخلت البلاد في حرب أهلية كما في ليبيا وسورية، أو جرى قمعها منذ البداية واستنفار كل ما يمزق الشعب كالطائفية والتكفير. في جميع البلدان العربية هناك أزمة بنيوية تطال الاقتصاد والعمل والتعليم وأزمة شرعية الحكم، وتفاقم العلل مثل الطائفية والعنصرية والفكر التكفيري، والفقر والبطالة، وتهميش المرأة والشباب.
وقد جاءت أزمة انهيار أسعار النفط، وهو عماد اقتصاد الدول العربية المصدرة في الخليج وليبيا والجزائر وإلى حد ما مصر، ليفاقم الأوضاع الاقتصادية العربية ككل.
أما حصيلة ذلك فمذهلة بكل المقاييس ولا سابق لها في تاريخ العرب، مئات الألوف من القتلى وأضعافهم من الجرحى والمعوقين وملايين المهجرين والمهاجرين سواء في بلدانهم المنكوبة، أو العابرين للبحار والقفار للنجاة بأنفسهم إلى أوروبا وأبعد من ذلك، حيث صور الغرقى في مياه المتوسط أو الموتى جوعاً في مناطق الاقتتال تصدمنا كل يوم وتذكّرنا بعارنا.
أما القمع فحدّث ولا حرج، فلم تعد هناك أية ضوابط سواء في قمع الاحتجاجات بالرصاص، أو التعذيب حتى الموت، أو الأحكام بالجملة أو التسريحات الجماعية من العمل، أو حرمان الشباب من العمل، أو انفلات أسعار الغذاء والسكن والتعليم والتطبيب وغيره. بل إن مدناً جميلة وتاريخية كما في سورية والعراق وليبيا تحولت إلى أطلال.
الخراب في النفوس أخطر من خراب المدن، فقد تمزق النسيج الوطني والقومي، وعاد العرب إلى العصبيات الدينية والطائفية والقبلية والعرقية ولا يجمع المواطنين سوى الهوية أو جواز السفر.
لقد تآكلت شرعية الأنظمة المستبدة، ولم يعد أمامها سوى القمع، فحتى رشوة المواطن ببعض المكاسب المادية غير متوافرة أمام الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، كشف الربيع العربي عن توق الشعوب العربية للحرية والكرامة والعدالة والعمل اللائق والحياة الكريمة، وأن يكون مواطناً فعلاً لا رعية، كما كشفت عن طاقات كامنة مغيبة للشباب والنساء والمهمشين، تمثلت في القدرة على التنظيم والحشد والتعبئة والتعبير الفني عن القضايا والطموحات والآمال. كما تشكلت روابط عابرة للحدود فيما بين الشباب العربي والمناضلين من أجل التغيير، فارتفعت الأعلام العربية التي ترمز للثورات في مختلف الساحات وترددت الشعارات التضامنية. كثيرة هي المتغيرات وكثيرة هي الأفكار والقيم التي تبلورت، وبالمقابل كثيرة هي المسلّمات التي جرى التخلي عنها. صحيح أن الربيع العربي لم يثمر انتصارات، لكنه دشّن طريقاً لا رجعة عنه، طريق الكرامة والحرية والعيش اللائق وتجربة الثورات من قبلنا شهدت انتكاسات كبيرة مثل الثورة الفرنسية لكنها شقت طريقاً لم يقتصر على فرنسا بل أشع إلى العالم كله بشعاراتها، (حرية، إخاء، مساواة)، والربيع العربي أيضاً يشق طريقه ببطء وسط الركام والخراب والتآمر، ولابد لإرادة الشعوب أن تنتصر.
الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/02/06