مهلا يا أصحاب الدولة... هناك دستور
ناصر قنديل
– من المؤسف والمؤلم أن يظهر موقف الرؤساء السابقين للحكومة في لبنان كمجرد متراس طائفي ينصب تحت عنوان الدفاع عن صلاحيات ودور رئاسة الحكومة عندما يتولاها فريق معين، لفتح النار على رئاسة الجمهورية، بصورة تريد تحويل الخلاف الجدي حول قضايا وطنية إلى لعبة طائفية تستثار فيها الغرائز والعصبيات على أيدي رجالات تولّوا مسؤوليات كبرى في حياة الدولة من موقع رئاستهم للحكومة، ويُفترض أنهم حراس دائمون للسلم الأهلي وللانتظام العام، ولنفي كل شبهة تموضع طائفي عن أي خلاف سياسي، ولزرع الوعي الوطني بتوصيف الخلافات السياسية والدستورية بحجمها وموقعها الطبيعي، كتعبير عن وقائع ممارسة الديمقراطية التي اختارها اللبنانيون لإزالة المتاريس الطائفية، والاحتكام للدستور كمرجع حاكم في تنظيم الحياة السياسية والوطنية.
– من المتفق عليه وفقاً لدستور ما بعد الطائف أن اللجوء للاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس مكلّف بتشكيل الحكومة نزع من يد رئيس الجمهورية صلاحية اختيار رئيس الحكومة، وأنه انتزع معها الصلاحية المنفردة بوضع التشكيلة الحكومية، وجعل تشكيل الحكومة عملية تكاملية بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة بموجب تفويض نيابي ملزم لرئيس الجمهورية، لكن الدستور الذي نقل صلاحيات رئيس الجمهورية بممارسة السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً وليس إلى رئيس الحكومة، لم ينقل صلاحية تشكيل الحكومة إلى رئيس الحكومة أيضاً، بل ربط إنشاء الحكومة بتوقيع الرئيسين معاً، وتحمّل مسؤولية إنشائها كجسم دستوري تناط به السلطة الإجرائية، ولا حاجة لتقديم دليل للقول إن توقيع رئيس الجمهورية على مرسوم تشكيل الحكومة ليس مجرد مصادقة على صحة توقيع رئيس الحكومة، ولا نظنّ أن بين الرؤساء السابقين الذين مارسوا الحكم من يظنّ أن رئيس الحكومة يحكم لبنان، أو هو ملك متوّج، وأن رئيس الجمهورية هو مجرد كاتب بالعدل يصادق على توقيعه، كما لا حاجة لدليل على أن الشراكة هنا في المسؤولية الدستورية عن إنشاء الحكومة يعني تمتع كل منهما بصلاحيات يجب أن يمارسها، في تدقيق المعايير والأسس التي عليه أن يضعها ويطابق بينها وبين التشكيلة الحكومية وهو يضع توقيعه عليها. وهذه المعايير والأسس لو كانت قابلة للتثبيت وليست من النوع المتغير بتغير الظروف والأحوال لنص عليها الدستور، الذي لم يقيّد رئيس الحكومة بشروط اختياره للتشكيلة الحكومية، ولم يقيّد أيضاً رئيس الجمهورية بشروط توقيعه على إنشائها.
– الحكمة من توقيعَي رئيس الجمهورية والحكومة على التشكيلة الحكومية، وهي نادرة الحدوث في موقع آخر من الدستور، ليست شكلية ولا هي مجرد إخراج قانوني لمشيئة الرئيس المكلف بإنشاء حكومة تلبي رؤيته ونظرته، أي المعايير والأسس التي اعتمدها في اختيار التشكيلة الحكومية، بناء على ما يراه المصلحة الوطنية والظروف التي يمر بها البلد. والتعمق في المعنى لا بد أن يكون قد أوصل الرؤساء السابقين إلى الانتباه إلى أن اتفاق الطائف الذي نقل صلاحيات رئيس الجمهورية في ممارسة السلطة الإجرائية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، أي الحكومة التي يشكلها مع رئيس الحكومة، ولم ينقل هذه الصلاحيات إلى رئيس الحكومة، والحكومة التي ستناط بها السلطة الإجرائية هي مسؤولية دستورية تنتج عن تزاوج إرادتي رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بموجب استشارات نيابية ملزمة، يعبر عنه تزاوج توقيعيهما، وفقاً لمعايير وأسس يضعها كل منهما من موقعه انطلاقاً من نظرته لمصلحة البلد والظروف التي يمر بها.
– لأن الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة هو من سيترأس هذه الحكومة بعد إنشائها، وسيقود عملها لتحقيق ما يفترض أنه الأهداف التي يراها راهنة لمهام الحكم، فإن هذا ينشئ اختلافاً بين موقعه وموقع رئيس الجمهورية في مقاربة التشكيلة الحكومية ويكشف التباين في المعايير والأسس التي يعتمدها كل منهما في مقاربة التشكيلة الحكومة، مرتين، ويفسّر ضرورة التلازم بين توقيعيهما لتكون الحكومة ملبية ومستوفية نوعين من المعايير يفرضهما الموقع المختلف لكل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلف. المرة الأولى، هي في الميل الطبيعي للرئيس المكلف الذي سيصير رئيس الحكومة لضمان تشكيلة حكومية تسهل عليه ممارسة قيادتها وإدارتها، والمرة الثانية هي في وجود تصور لدى رئيس الحكومة لمهام الحكومة في مواجهة استحقاقات وتحديات يرى المصلحة الوطنية بالتصدي لها، أو يسعى لتفاديها وتجنب الخوض فيها، ويراعي في التشكيلة الحكومية استيلاد توازنات تضمن له هاتين المهمتين. وبهذا فالرئيس المكلف لا يضع التشكيلة وفقاً لأهوائه ومزاجه ومصالحه الشخصية والحزبية، إلا إذا كان نفي وجود الأسس والمعايير يؤدي لاعتماد هذا المفهوم ويرضاه الرؤساء السابقون بديلاً مناسباً في توصيف كيفية صياغة الموقف من التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة بالنسبة لكل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، كي لا يوصف الحديث عن معايير وأسس وضعها الرئيس المكلف بالهرطقة
– معايير وأسس الرئيس المكلّف هي سياسية بامتياز، بمقدار ما هي تلبية لمهمة مستمرة بصلاحيات أكبر للرئيس المكلف عندما يصير رئيساً للحكومة، لكنها بالنسبة لرئيس الجمهورية معايير وأسس دستورية، تنطلق أولاً من كونه يفقد القدرة الدستورية على التحكم الموازي لرئيس الحكومة بعمل الحكومة بعد ولادتها، أي بعد توقيعه مرسوم إنشائها، وتنطلق ثانياً من كون الحكومة التي ستولد ستتخذ قرارات تتصل بشؤون وطنية كبرى وبتعيينات في مؤسسات الدولة وتتصل بتوازنات الطوائف والمناطق، وتقر الموازنة العامة للدولة كما تضع قانون انتخابات نيابية، وكلها قرارات تتحكم فيها تشكيلة الحكومة. وعلى رئيس الجمهورية تفحص هذه التشكيلة، لجهة كيفية تشكل ثلثيها، وكيفية تشكل ثلث معطل فيها، وكيفية تشكل تعطيل ميثاقي طائفي لعملها، والتحقق من مطابقة معيار ميثاق العيش المشترك في تشكيلتها كمعيار دستوري، كما مطابقتها لمعنى كونها حكومة جديدة فرض الدستور تشكيلها بعد كل انتخابات نيابية دعوة للإصغاء لما قاله الناخبون في صناديق الاقتراع، وكيفية توزّع نتائج هذه الإنتخابات كبوصلة للاتجاهات التي يتشكل منها اللبنانيون وتحمل النتائج توازناتها الجديدة التي يجب أن تظهر روحها في التشكيلة الحكومية التي تلي كل انتخابات، سواء كانت حكومة أغلبية أم حكومة وحدة وطنية.
– تشكيلة الرئيس المكلّف حملت الثلث المعطل لتحالف تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. وهذا سيكون حقاً مكتسباً كما كان في حكومات سابقة لو كان متناسباً مع الأحجام النيابية الجديدة لهذا الثلاثي، لكنه بتنافيه مع هذه النتائج يصير التساؤل مشروعاً عن السبب. وبالمقابل السعي بعناد لتهميش قوى وتيارات منحتها الانتخابات وزناً يستدعي تمثيلها خصوصاً عندما تمثل لوناً ثانياً وازناً في طائفتها، حصراً للقرار الحكومي بقوى يمكن استقراء مواقفها وحساباتها سلفاً وضمان التحالف والتخاصم معها لتشكيل الثلثين اللازم للقرارات الكبرى، أو لتشكيل الثلث المعطل إذا لم تكن القرارات تناسب تحالف الثلاثي، ومن ضمن التشكيلة سعي واضح لفتح فرضية تشكيل الثلثين بتحالفات ظرفية تحكمها أحياناً التوزيعات الطائفية للمواقع والموازنات، من دون أن يكون لرئيس الجمهورية والتكتل النيابي الداعم له فرصة الشراكة الإلزامية تحت شعار تفادي حصول أي فريق على الثلث المعطل، وهو أمر مرحّب به حكماً عندما يطبق على الجميع، طالما أن الانتخابات النيابية لم تمنح تمثيلاً لأحد يتيح له امتلاك هذا الثلث.
– الهرطقة يا أصحاب الدولة هي بأن يتخلّى رئيس الجمهورية عن هذه المسؤولية بوضع معايير وأسس ترك له الدستور استنسابها وفقاً للظروف والمتغيّرات، ولم يقيّده بتحديدها، كما لم يقيد رئيس الحكومة بتحديد معايير وأسس وضعه مشروع التشكيلة الحكومية، التي تولد بالشراكة الكاملة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، مع مسؤولية أكبر على رئيس الجمهورية لأنه سيمنح بتوقيعه على مرسوم تشكيل الحكومة لرئيس الحكومة الجديد صلاحيات أكبر مع توليه شؤون الحكومة الجديدة، ليكون توقيعه نهاية ممارسته لدور هام من صلاحياته، بينما توقيع رئيس الحكومة هو بداية لدور هام من صلاحياته.
جريدة البناء اللبنائية
أضيف بتاريخ :2018/09/05