الميدان السوري يُغيّر في توزّع القوة في العالم
د. وفيق إبراهيم
ليس غريباً على هذا «الشرق التاريخي» أن يكون الميدان لتشكيل أنظمة القوة في العالم، لكن الغريب عليه أن تتمكّن قوة محلية منه من إجهاض الحركة الاستعمارية الجديدة التي أرادت تفتيته مجدداً.
ومن آلاف السنين لم يحدث مثل هذا الأمر مع بعض الاستثناءات الطفيفة، لذلك بدا الشرق ساحة مكرّسة لليونان والإغريق والرومان والفرس والمماليك والمغول والفرنجة والبويهيين والأخشيديين والعثمانيين والاستعمار الغربي الأوروبي الذي أورث معلمه الأميركي القتل والدم والمكر والنفط والغاز والاستهلاك بمشاركة «إسرائيل».
الاستثناء على قاعدة الاستسلام للمستعمرين ظهر في القرن التاسع عشر عندما تمكّن محمد علي الألباني من السيطرة على مصر وطرد العثمانيين منها، أما الثانية فتجسّدت في مرحلة الثورة السورية في مطلع القرن العشرين بقيادة سلطان وصالح العلي في سورية والذي أدّت ثورتهم إلى طرد المستعمر الفرنسي من سورية، وكذلك فعلت مصر في مرحلة عبد الناصر في الخمسينيات من القرن الماضي عندما طردت الانجليز، لكن التاريخ الذي كتبه أعوان المستعمرين لفق أساطير وروايات عن ثورات مفبركة في الخليج الوهابي ولبنان اتضح أنها كانت بدعم من المخابرات الانجليزية والفرنسية.
ما يجري حالياً من حروب عدوانية في معظم بلاد العرب، وخصوصاً في سورية والعراق واليمن يشكل امتداداً «للحركة» الاستعمارية التاريخية في مشرق مستسلم اعتاد أن يكون الضحية لموازين القوى الدولية. وهي حركة سبق وحوّلت ما يسمى «الشرق» إلى شرق أدنى لقربه من أوروبا وشرق أوسط لتوسّطه المسافات بين القوى الاستعمارية الأميركية التي كانت في حينه جديدة وبين باقي العالم.
ولما حاول الأميركيون الاستفادة من أحادية سيطرتهم على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي 1989 حاولوا تكبير الشرق الأوسط ولاحقاً تفتيته كيانات صغيرة فهاجموا المنطقة بقوات مباشرة وبواسطة إرهاب إسلاموي متطرّف وبقوات من حلفائهم.
أسقط هذا المشروع الأميركي أفغانستان والعراق وليبيا واليمن ومصر والصومال وجيبوتي وأرتيريا… فاتحاً أعنف معركة تدمير واسعة في سورية التي أناط بالترك والسعوديين والإسرائيليين والأردنيين والقطريين مسؤولية تدميرها بواسطة مئتي ألف إرهابي دخلوا من حدود تركيا والأردن برعاية تركية وأردنية كاملة. هذا يكشف أن المشروع الاستعماري تنبّه َ مسبقاً إلى مسألتين: أهمية سورية الاستراتيجية في قلب بلاد الشام و»المشرق» وقوة دولتها السياسية والعسكرية والشعبية لذلك استعمل كل قواه لتفتيتها كمقدمة لتغيير كبير في الشرق الأوسط وتمديد للسيطرة الأحادية الأميركية على العالم.
لقد فوجئ الأميركيون بقوة الجيش السوري وباغتتهم الدولة السورية بمدى شعبيتها التي تنبع من إيمان مواطنيها بأن بلدهم هو الوحيد في المنطقة الذي يقدّم لشعبه طبابة وتعليماً مجانيين وإسكاناً شعبياً رخيصاً ولا ديون عليه بالمعنى الفعلي ولديها مؤسسات سياسية قد لا تُقارنُ بالمؤسسات الأوروبية العريقة، لكنها وبكل تأكيد تتقدّم على النظام القبلي السعودي والخليجي عموماً والأنظمة الطائفية خصوصاً والنظام الرئاسي الدكتاتوري.
في تركيا والدولة العنصرية الاستعمارية في «إسرائيل»، ولم يسبق لها أن مارست دوراً استعمارياً..
كما أذهلهم الرئيس بشار الأسد عندما تمكّن من بناء تحالفات ذات أبعاد استراتيجية تتعدّى مسألة حماية نظامه، فأشاد نظاماً تحالفياً بين الدولتين الأكثر استهدافاً من قبل النفوذ الأميركي وحزباً متخصصاً بقتال الأميركيين والإسرائيليين منذ تأسيسه في 1982 هو حزب الله.
ابتدأ مغاوير حزب الله ومجاهدوه بالدفاع عن سورية بالتعاون مع جيشها والقوى الرديفة وتلاهم مستشارون عسكريون إيرانيون يؤدون دوراً كبيراً في القتال والاستشارة، فلم تبخل طهران لا بعديد ولا مدد، وكذلك الأحزاب الوطنية التي لا تزال تؤدي دوراً متصاعداً لقد تمكّنت هذه التحالفات من الصمود في ثلث سورية، حيث الدولة والمؤسسات والجيش وعشرات ملايين السوريين في مدنهم الكبرى وقسم من أريافهم.
لكن حجم الضغط الأميركي والتركي بذل جهوداً أوسع لرعاية الإرهاب إلى جانب احتلال مباشر في الجنوب الحدودي لسورية وشرقيها من قوات أميركية مباشرة وفي مناطقها الشمالية والشمالية الغربية التي تحتلها قوات تركية بشكل مباشر ومتنكر بأزياء ما يسمّى الجيش الحر والتنظيمات التركمانية. هذا إلى جانب الكرد السوريين الذي تستعملهم واشنطن لإرباك الدولة، فَتَعِدُهُم بدويلة مستقلة لهم شرق نهر الفرات وتستعملهم لمهاجمة الجيش العربي السوري في أكثر من مرحلة.
هناك حركة أخرى، أذهلت الأميركي والغربي عموماً. وهي عمق قراءة الدولة السورية لحاجة روسيا إلى العودة إلى الشرق الأوسط لسببين: حماية نفسها من العدوانية الأميركية المتصاعدة التي تتحرك لتدمير أي دولة تراها على وشك الصعود، أما الثانية فإن هذه العودة الروسية ما كان ممكناً أن تتأمن إلا من خلال بلدٍ لديه صداقة تاريخية عميقة للروس في سورية ويلبي لها من خلال تماسك دولتها وقوة جيشها إمكانية الصدام مع الأحادية الأميركية.
فتمكنت التحالفات الرباعية من سورية وحزب الله وإيران وروسيا من استعادة من سورية بإضافة مناطق في شرقي الفرات يوجد فيها جيش سوري، فأستولدت هذه الصراعات العسكرية الواسعة نظام تحالفات أميركي غربي إسرائيلي خليجي مقابل حلف سورية وتحالفاتها الثلاثية. وانتهجت تركيا سياسة الميل مع الفريق الذي يؤمن مصالحها ومطامعها، فتنحاز إلى روسيا لجذب الأميركيين المتخلّين عنها وتحذرُ الروس بالعودة الكاملة إلى الأميركيين إذا دخلوا في عملية تحرير إدلب وضرب نفوذها شمال سورية.
أدّى هذا النصر الكبير في ميادين سورية إلى تقهقر بنيوي للأميركيين وأصاب للمرة الأولى منذ ثمانينيات القرن الماضي السيطرة الأميركية على القرار الدولي محدثاً استنفاراً غربياً عاماً. فهناك ما يشبه الصدمة من قدرة الميدان السوري على زعزعة الهيمنة الغربية من جهة ودفعه نحو تحالفات دولية من شأن تبلورها أن تؤسس نظام تعدّد أقطاب واسعاً.
وهذه التعددية تدفع بدورها نحو سياسات دولية أكثر توازناً تمنع الحروب التي تتفرد بها الولايات المتحدة وتصبح الحاجة ماسة إلى تأمين قبول الدول المشاركة بالتعددية القطبية لتوفير تغطية لأي موقف دولي أو إقليمي طارئ.
هذا ما أصاب الأميركيون بجنون أدخلهم في ما يسمّيه التاريخ السياسي بمناورات عرض القوة لإثارة ذعر المنافسين فنشروا أكبر بحرية لهم في بحار المتوسط والأحمر والخليج والأطلسي عند نقاط تماسه مع المتوسط، وتعمّدوا إظهار قوتهم في البلطيق وأوروبا الشرقية وبحر الصين والأدرياتيك ولم ينسوا إجراء مناورة قرب قاعدة التنف في سورية التي يحتلها الجيش الأميركي دافعين الكرد إلى مهاجمة كتيبة للجيش السوري في القامشلي ومشجّعين «إسرائيل» على غارات مفتوحة على سورية ملوحين بحرب عالمية في حالة إصرار الفريق السوري الروسي الإيراني على تحرير إدلب من الإرهابيين.
الرد الروسي لم يتأخر وتجسّد باستمرار الإغارات على إدلب والمناورات الضخمة في البحر المتوسط قبالة سواحل سورية. وهي أكبر مناورات منذ نصف قرن أجرتها قوات روسية صينية مشتركة، أكدت على مسألتين: إصرار على أنهاء الأحادية الأميركية وإشهار الحلف الروسي الصيني الاستراتيجي الاقتصادي والعسكري. وهذا يمنح نظام تعدد الأقطاب البديل قوة دعم هائلة من بلدين قويين عسكرياً واقتصادياً إلى درجة المناعة.
هذا ما يؤكد أن الميدان السوري يتمتع بمميزات هائلة في الصراع الدولي، فمن يتحالف مع دمشق يمتلك مميزات إضافية عن المعادين لها، ألم تذهب موسكو وطهران نحو اتفاق بين دول بحر قزوين المتشاطئة؟ وبذلك تلغي النفوذ الأميركي المتلاعب بدوله؟ ولماذا تنجح روسيا في فِعلِ هذا الأمر الآن؟ إن الميدان السوري هو الذي قرّبها من إيران فأصبح البلدان فريقاً ينسق في الخلاف على بحر قزوين المليء بالثروات، وينسحب التنسيق بالتالي على مجابهة الأميركيين.
لذلك قد تنجح واشنطن في إرجاء تحرير إدلب إلى حين إنجاز الاتفاق الإيراني الروسي التركي. وهذا لن يمنع «المقدور» كما يُقال في «الشعبي» وهو إنجازان: سقوط الأحادية الأميركية إلى مرحلة تعدد الأقطاب، وتحرير إدلب وضمّها إلى سيادة الدولة السورية.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/09/18