ترامب يُدمِّر «قرية بلاده الكونية»!
د. وفيق إبراهيم
عَمِلَ الاقتصاد الأميركي على تحويل العالم قرية كونية صغيرة تسبقه عقود من الحروب والغزو والتدمير فأباد فيها ملايين البشر مدمراً مئات الأنظمة والدول مستبيحاً حدودها السياسية والجمركية بنظرية «عولمة الكون»، ضمن دول مفتوحة على بعضها البعض ليس فيها عوائق وطنية أو حمائية تلعب دور الكمائن.
ولتمرير هذا المشروع كان لا بد من تأسيس تفاعلات عالمية جديدة تخفف من «الإحساس الوطني» لمصلحة شعور كوني عام يحتاج لنموّه إلى تفاعلات ثقافية فكان الإعلام التلفزيوني الكوني واحداً من الوسائل العميقة في اختراق المجتمعات على قاعدة انحسار التلفزيونات الوطنية.
يعمل هذا الإعلام التلفزيوني الكوني حتى اليوم على نشر الثقافة الأميركية بالترويج لملبسهم ومأكلهم ومأواهم وطريقتهم في الحب معمّماً ثقافة «الجينز» و»الفاست فوود» وناطحات السحاب والعلاقات الاجتماعية على الطريقة الهوليوودية فأصبح رمز التقدم في العالم الذي يمتلك المميزات الأميركية أي «المتأمرك»..
لعل هذا منح الأميركيين إلى جانب حروبهم التدميرية قوة تعميم العولمة في العالم بجانبيها الثقافي أولاً والحدودي آنفاً.
لجهة الثقافة لا يوجد منافس للأفلام والكتب والإعلام الأميركي عموماً، أما لجهة الحدود السياسية في العالم فنجحت واشنطن أيضاً بإلغاء ما كان يكتنفها من رسوم جمركية جرى خفضها أو إلغاؤها بمعدلات كبرى.
فأصبح تمرير السلع أسهل على الدول القوية فما تعني كلمة مساواة في تبادل السلع بين أميركا وألمانيا واليابان والدول العربية مثلاً.
ماذا يبيع لبنان أو قطر أو حتى السعودية ليرسله إلى أوروبا وأميركا وجنوب شرق آسيا باستثناء النفط؟ وهل بإمكان أفريقيا مجتمعة أن تصدر واحداً في الألف من إمكانات بلد أوروبي معتدل كإسبانيا مثلاً؟
هذا ما يجعل سهلاً اعتبار العولمة أنها بالأساس «مشروع أميركي» لترجمة انتصاره العسكري على ألمانيا واليابان، ولاحقاً الاتحاد السوفياتي، وذلك على المستويين السياسي والاقتصادي من خلال تعميم النموذج الأميركي كأساس للاقتداء والتشبه به. وهذا ما لا تمكن ملاحظته من خلال الإمساك العسكري بالعالم الذي تلاه نشر ألف قاعدة عسكرية أميركية ووضع اليد العليا لواشنطن على أوروبا والخليج واوستراليا وكندا وجنوب شرق آسيا، وذلك باستتباع واضح إلى حدود الاسترقاق. وحتى أصبح قرار هذه الدول السياسي أميركياً باستثناء التعيينات في الإدارات والمواقع الداخلية.
هناك عناصر سهلت الأمور أمام «العولمة» أولها نمو إحساس ألماني ياباني بقدرتهما على الاستفادة من العولمة بالإضافة إلى الصين التي كانت تعمل بصمت على نزع «البصمات السياسية الماوية» عن سلعها وسوّقتها كسلعة اقتصادية لم تنتج من توسّع سياسي سابق ولا تريد نفوذاً سياسياً لاحقاً جُلّ ما تريده بيع سلعها لتأمين حاجات سكانها المليار ونصف المليار نسمة، لذلك بدأ الصيني يقدم إنتاجه للعالم ضاحكاً ومختبئاً خلف ستارة لا تبدو من خلالها إلا سلعة جميلة الشكل ورخيصة بشكل يجذب أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى، لكن هذا لم يكن كافياً لذلك رفعت واشنطن شعار العولمة عندما أيقنت نهائياً أنها ربحت السباق في وجه الاتحاد السوفياتي وقبل انهياره بعقد على الأقل أي في منتصف الثمانينيات الذي يؤرخ لإصابة روسيا بتعب اقتصادي كبير نتيجة مجابهتها المنفردة للنظام الغربي العام في حروب الأرض والفضاء.
فأصبحت الفرصة مناسبة لتعميم العولمة وإزالة كل ما يعترضها على قاعدة الاستفادة من إمساك الأميركيين بنظام سيطرة أحادية على العالم بعد انهيار السوفيات في 1989.
ماذا كانت النتائج؟
بدأت الولايات المتحدة الأميركية بفرض قوانين عامة تفتح حدود الدول على مصراعيها من دون مراعاة ظروفها الوطنية. فكيف يمكن للبنان القبول باستيراد التفاح الأميركي وهو الممتلك أفضل أنواع التفاح في الشرق الأوسط؟ وهل تقبل السعودية باستيراد النفط وما لديها يكفي العالم بأسره، وكانت مصر تصدر القمح، فإذ بها مع العولمة تصبح مستوردة له لإصرار رعاتها الأميركيين على تحويلها دولة ريعية على المساعدات الخليجية والغربية؟ وماذا عن أفريقيا فإذا كان العرب يستوردون حتى ألبسة الرأس «الكوفية» الخاصة بهم من الصين وتايوان وبريطانيا فإن القارة السوداء تبيع كحال العرب مواد أولية وتعاود استيرادها على شكل سلع أميركية وأوروبية وحالياً يابانية وصينية. وتركيا تعتمد على «إسلامية دولتها» لجذب الزبائن المتشابهين.
لقد وجد الأميركيون أن هناك منافسة اقتصادية واسعة من أصدقائهم الألمان واليابانيين كما بوغتوا بزحف صيني يجتاح معظم الفئات الفقيرة في الدول فقرروا نشر استعمار عسكري مباشر يؤدي فوراً إلى عولمة السلعة الأميركية بمفردها وبالقوة.
وبناء عليه اجتاحوا أفغانستان والعراق داعمين إرهاباً عالمياً كان يُفترض بحركته أن تؤدي إلى تفتيت دول العالم الإسلامي.
وابتدأ التراجع الأميركي في عهد جورج بوش مُسجّلاً مزيداً من التقوقع في عصر أوباما الذي حاول مسح أخطاء سلفه، مُوقِفاً التدخلات العسكرية الكبرى إلى الحد الأقصى.
وبجردة حساب تبين للاقتصاد الإمبراطوري الأميركي أن العولمة من جهة والحروب من جهة أخرى أساءت إلى ما يُطلقون عليه «المعجزة الأميركية».
أدّى هذا التراجع وبالأرقام إلى تدهور الطبقة الوسطى الأميركية إلى أربعين في المئة بتراجع عشرة في المئة. قد تبدو هذه الأرقام من دون معنى في أفريقيا والشرق الأوسط، حيث ترتفع الفئات وتنحدر من دون وجود أسباب دائمة ولا يترتب عليها انعكاسات سياسية واجتماعية.
أما عند الأميركيين فالطبقة الوسطى هي عنوان استقرار دولتهم وقاعدة انطلاقها نحو الهيمنة الخارجية.
فعندما تزدادُ ثروات الأغنياء الأميركيين وعديدهم من عشرة في المئة إلى عشرين وترتفع حصصهم من الناتج الوطني إلى حدود خمسين في المئة، فهذا يعني أميركياً بداية الكارثة على «معجزتهم» وسرعان ما حددوا الأسباب وأولها الحروب فخففوا منها معتمدين على دول إقليمية ونفطية لتأمين العديد والتمويل. واكتشفوا أنهم كانوا ضحية تسويقهم التاريخي للعولمة لقد أثبتت دراسات مراكز الأبحاث عندهم أن الصين سجلت أعلى معدل في الاختراق الاقتصادي للطبقات الوسطى والفقيرة في الولايات المتحدة الأميركية تليها اليابان التي تمكنت أيضاً من تسويق سلعها المتقدمة تقنياً والأرخص من الأميركية إلى جانب صعود اقتصادي ألماني أسس مكانة لسلعة ألمانية في الأسواق الأميركية.
ولم تكتف هذه الدول عند الحدود الأميركية فقد تفوقت على البضائع الأميركية في أميركا الجنوبية والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا ولولا بيع السلاح والسلع التكنولوجية والطائرات المدنية لكانت الصين وألمانيا واليابان من الدول الاقتصادية الأولى في العالم.
لقد أدّت هذه المعطيات إلى عودة اليمين المتطرف إلى البيت الأبيض بذريعة استعداده لتأمين اقتصاد أميركي إمبراطوري كسالف الأيام، لذلك لم يتأخر ترامب في رفس «العولمة» والعودة إلى الزمن الاستعماري القديم الذي يستند إلى وطنية مفرطة تعتبر أسواق العالم ملكاً لها بشكل منفرد.
وهذا دفعه إلى إعداد جردة اقتصادية ليس فيها الكثير من عناصر الاحترام للتقارب السياسي أو مراعاته.
فلنقل إنه استبقى على القليل منه مطلقاً تدابير تجارية وتصديرية وحمائية وتوسعية ومستعملاً قوة بلاده العسكرية – السياسية في وجه مَن يجد صعوبة في إخضاعه كإيران مثلاً أو الصين وروسيا.
فلم يُميّز بين دولة صديقة وأخرى منافسة. فتراه يعرقل الاقتصاد الألماني والأوروبي والكندي والياباني والتركي كما يفعل مع الاقتصادات المنافسة بشكل حرفي، لأن المهم بالنسبة له هو تأمين رفع مستوى الاقتصاد الأميركي لكسب الانتخابات النصفية والتجديد له في ولاية جديدة. فهل يمكن لرئيس عاقل أن يهاجم الأوبك والخليج وبلاده تستنزفهما منذ التأسيس، بالإضافة إلى أنها منصاعة لسياسات بلاده من دون مناقشة؟
ماذا يعني هذا الوضع؟ يمكن فوراً تأكيد أن عصر القرية الكونية العالمية انتهى إلى غير رجعة مع العودة إلى نظام القرى المتجاورة والمتعاونة إنما في ظل سيادة «صاحب المدينة الأميركية» الذي يفترض أن كل القرى موالية له فقط. فهل ينجح؟
هناك إصرار صيني روسي إيراني على المجابهة بجذب أوروبا إليه، كلما حقق نجاحاً وهذا يَفترضُ ممارسة لعبة الانتظار والرصد لصراعات حادة جداً لن تكون واشنطن بمنأى عن دفع ثمنها على مستوى خسارة أحاديتها في العالم وتراجع إمبراطوريتها الاقتصادية إلى مستوى خطر.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/09/27