وطن قيد الدرس
سعد الله مزرعاني
ليست أزمة تشكيل الحكومة الجديدة أزمة طارئة. هي واحدة من تلك الأزمات المعتادة التي يشير حصولها إلى خلل كبير في نظام حياتنا السياسية. ويشير تكرارها وتفاقمها إلى تضخّم هذا الخلل وتعاظم مخاطره على وحدة البلد واستقراره. الخلل المذكور، هو في العلاقات، كما في الخيارات. وهو يتحوّل الآن إلى صراع مكشوف على السلطة والصلاحيات بما يتعدى الصراع على التوازنات إلى مضمون «التعايش» اللبناني – اللبناني نفسه. الواقع أنّه بعد 75 سنة من الاستقلال «الرسمي» ما زال لبنان وطناً قيد الدرس! هذا ما يتأكد كل يوم: بالانقسام، وبالتعطيل، وبالدويلات، وبالفشل...، وبسنواتٍ ومرات كثيرة: بالدمار والخراب والاحتراب والموت والدماء والخسائر والتبعية.
ما زلنا، مع كل أزمة وتعثّر وتصدع وانقسام... نُعيد طرح السؤال إياه: أيَّ لبنان نريد؟! نطرح هذا السؤال من قبيل التذمُّر والاستياء من التوازنات في هذه المرحلة أو تلك، أو من قبيل الرغبة في حسم اتجاهات السياسات الداخلية والخارجية لمصلحة غلبةٍ فئوية ما أو لمصلحة تعطيل هذه الغلبة. ودائماً ما يحصل ذلك بالتفاعل مع الخارج: استقواءً به لتحقيق هدف خاص، أو لتعطيل هذا الهدف من قبل المتضررين عبر خارج سواه: نقحمه، هو الآخر، في أمرنا وبيتنا الداخليين ونترك له الكلمة الفصل في شأننا المصيري!
ذلك أنه في مسيرة «استقلالنا» الطويلة، لم نعمد يوماً إلى إقامة الدولة على أسس سليمة مبنية على المساواة والمؤسسات والقانون واحترام حقوق الإنسان والعدالة والمواطنة... أقمنا، على حساب مثل هذه الدولة، دويلات متعددة: منقسمة ومتنازعة وتابعة. وهي، فعلياً، شكّلت العائق الأكبر أمام إقامة الدولة الواحدة المستقرة والحصينة والمستقلة والمزدهرة. هذه الدويلات التي أقامت لها بُنى ومؤسسات بديلة عن المؤسسات العامة، تتغذى بالنهب والفساد من ميزانية الدولة ومن جيوب المواطن المكلّف الذي عزَّت عليه، في القرن الواحد والعشرين، قطرة الماء وحبة الدواء ونعمة الكهرباء وإمكانية البقاء في وطنه فتشردت أكثرية أجياله الشابة في أربع زوايا الأرض لطلب الكفاية والأمان والكرامة وفرص العمل وأبسط حقوق الإنسان...
واستغل اقطاعيو القرون الوسطى وورثتهم ومن نسج على منوالهم من الإقطاع الحديث (الذي ادعى أنه نقيض وبديل لهم) مشاعر الناس ومعتقداتهم الدينية والطائفية والمذهبية. حوّلوا تلك المعتقدات إلى عصبيات يعتاشون من تغذيتها وإذكائها بوصفها انتماءات وهويات متعارضة دائماً ومتقاتلة في كثير من الأحيان، وقدموا أنفسهم حماة ودعاة وأحياناً أئمة وأولياء وقديسين!
ولقد نجم عن هذه الطبخة العجيبة، من العصبيات شبه الجاهلية والنعرات الطائفية والمذهبية، نظام علاقات لم يتأخر أصحاب الثروات والمال والربح غير الحلال في الانضمام إليه ليتشكّل نظام المحاصصة اللبناني الذي رعاه الخارج وخصوصاً الاستعماري منه. بل أن هذا الخارج حاول، في غير بلد، أن ينقل إليه «النموذج اللبناني» (كالعراق مثلاً الذي يعاني شعبه الآن من التحاصص الإثني والمذهبي ويدفع ثمناً باهظاً بكل المقاييس على حساب تعافيه ووحدته وسيادته واستقلاله واستقراره...). والمنطقة الآن، كلها مرشحة لـ«اللبننة» بشكل من الأشكال: بما هي هدف للتفتيت والانقسام والتدمير الذاتي والاحتلال الأجنبي والصراعات البينية على خلفيات طائفية ومذهبية واثنية وقومية...
إن منظومة المحاصصة اللبنانية التي تحولت فيها الأديان والمذاهب إلى هويات شاملة وكاملة، من جهة، ومتناقضة ومتصارعة من جهة ثانية، لم يكن لها أن تستمر لولا العامل الخارجي الذي أضفى على هذه المنظومة طابع التبعية في علاقة مَرضيَّة بين الداخل والخارج: علاقة هي مزيج من الولاء والاستقواء والاستجداء، وبالنهاية في عدم الجدارة والقدرة على بناء وطن واستحقاق سيادة وتوفير عدالة وأمن وازدهار واستقرار...
والدولة التي أخذت مكانها بشكل تدريجي ومتصاعد دويلات متعددة، تحوّلت إلى بقرة حلوب وأداة زبائنية ونهب وصفقات وفساد. ولأن حاميها حراميها، ولأن السارقين هم من كبار القوم في السلطة والنفوذ والإدارة والسياسة، فقد أصبح الفساد أمراً مشرعناً في صيغة حصص يجري تناتشها دون خجل أو وجل أو وازع من ضير أو رادع من محاسبة وعدالة، بوصفها «حقوقاً» لأُمراء السلطة والطوائف يتوارثها أبناؤهم جيلاً بعد جيل! وفي هذا النطاق أصبح الشاطر بشطارته أو تجارته أو مناوراته أو، في الغالب الأعم، باستقوائه بالخارج لاكتساب نفوذ أو لتكريسه أو لتعزيزه.
من أجل إقامة وإدامة منظومة المحاصصة بجوهرها التسلطي والتعسفي والفئوي تمً تسخير موارد ومؤسسات الدولة نفسها في الحقول والميادين كافة: السياسية والمالية والقضائية والإدارية والتربوية... تمّ أيضاً، في امتداد صيغ مشبوهة متشعبة من سياسة «فرق تسد» الاستعمارية، توظيف الانتماءات الدينية بكل صنوفها ومتفرعاتها. ولخدمة هذا الغرض أيضاً ثم اشتقاق شعارات وتغذية عصبيات واصطناع وتركيب ذهنيات وأيديولوجيات ومحاولة تكريسها بوصفها مرادفة لـ«طبيعة» لبنانية تتميَّز، عن سائر طبائع الشعوب القريبة والبعيدة، بوصفها «طائفية حتى العظم» وبوصف نظام لبنان «صيغة» ومعجزة تعايش بين الأديان والطوائف المختلفة والحضارات المتباينة. وصيغت لأجل ترسيخ ذلك معادلات وأشعار ومواويل. كذلك تمَّ، بالمقارنة، مدح «الصيغة اللبنانية» بوصفها صيغة تنوع وتعدد وحريات وبوصفها صاحبة الفضل في جعل لبنان «واحة حرية» في هذا المشرق الخاضع للاستبداد والقمع والظلامية...
الوجه الآخر المظلم للبننة الذي ارتبط بالانقسام والاحتراب والصراعات والقتل على الهوية والعجز عن بناء دولة موحدة وسيدة ومستقرة... أي ما وُصف غالباً، بسبب الإقتتال والفشل، بـ«الوباء اللبناني»، هو ما يراد له، من قبل المستعمرين والصهاينة، أن يتعمم على كل المنطقة وكامل «الشرق الأوسط الجديد».
بين «المعجزة» المزعومة والوباء المخطط له، بالأطماع الخارجية والفئويات الداخلية، أكد الشعب اللبناني تعلقه بوطنه ودفاعه عن أرضه ووطنه. في مجرى ذلك اجتُرحت معجزة التحرير والانتصار على العدو الصهيوني. كذلك أكَّد هذا الشعب تعلقه بالديمقراطية والحرية والتنوع والانفتاح. وقد كرَّست بعض هذه الحقائق إصلاحات «الطائف» التي قاومتها الفئويات الداخلية برعاية خارجية لتستمر الأزمات وتتجدد المخاطر السياسية والاقتصادية ويتجدد، مرة أخرى، خطر الإفلاس والفشل والشرذمة وتضييع النجاحات...
النموذج اللبناني يستطيع، فعلاً، أن يكون باهراً وملهماً إذا اقترن تحرير أرضه بتحرير نظامه السياسي من منظومة المحاصصة والتبعية والفساد والفشل... كل إصلاح مغاير هو خداع وكذب ومراوحة في الأزمة والمخاطر والفئوية!
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/09/29