هل يبيع آل سعود «سيفَهم الأملح»؟
د. وفيق إبراهيم
يبذل الأتراك والأميركيون جهوداً لتأمين تسوية «تلفلف» قضية مقتل جمال الخاشقجي في قنصلية بلاده السعودية في اسطنبول التركية، مقابل حصولهم على مكاسب تجمع بين الاستراتيجيا والاقتصاد. ومن الطبيعي أن يهتمّوا أكثر من غيرهم بهذه القضية التي أصبحت قضية رأي عام دولي. فتركيا هي البلد الذي اغتال فيه السعوديون الخاشقجي إنما داخل قنصليتهم، فيما تعتبر واشنطن أنه لجأ إليها بعد رحيله قبل عام من الرياض واستقراره فيها منتقلاً إلى اسطنبول لعلاقات عميقة تربطه بالفئة الحاكمة فيها من الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى سعيه لتنظيم أوراق قانونية تسمح له بالزواج من سيدة تركية تنتمي إلى حزب أردوغان في العدالة والتنمية، ما يوضح الاصطفاف السياسي للخاشقجي داخل منظومة الإخوان المسلمين.
لقد تحوّل اختفاء الخاشقجي بازراً دولياً كبيراً يريد كلّ طرف استخدامه سياسياً لتحقيق مطالبه.. حتى أنّ منظمات حقوق الإنسان والمرجعيات الإعلامية الدولية والصليب الأحمر والدول بمختلف القياسات هبّت فجأة لتطالب بتحقيق معمّق يكشف عن الحقيقة، علماً بأنّ هذه الأطراف لم تقل كلمة واحدة عن قتل آل سعود بالطائرات والقصف لنحو عشرين ألف يمني معظمهم أطفال ونساء.
فهل رفع الأميركيون الغطاء عن ولي العهد محمد بن سلمان، أم أنهم يوسّعون عيار هجمتهم ليقبضوا أكثر على جاري العادة؟ ولعلهم يريدون الاحتمالين معاً.
هناك عائق في وجه الاستفراد الأميركي بآل سعود وهم الترك الذي يقودهم حالياً أكثر رئيس يعتنق البراغماتية وهو أردوغان الذي يبدو أنه متمسك بملف الخاشقجي بقوة.. حتى أنّ مخابرات بلده توزع يومياً معلومات عن طريقة الاغتيال وتنسبها إلى مصادر مجهولة.
كما تتحدّث عن أمنيين سعوديين أتوا من الرياض لاغتيال الرجل، وعندما لا تستشعر وجود ذعر سعودي، تعاود التأكيد، وعبر المصادر دائماً، انّ واحداً من الأمنيين ينتمي الى الأمن الشخصي لمحمد بن سلمان.
وهذه من الطرق المعروفة في عالم رفع الأسعار، فما عليك إلا تكبير الاتهامات لفرض الاستسلام على المتهم.
وإذا كان محمد بن سلمان يريد التخلّص من الجريمة فما هي مطالب الترك والأميركيين؟
هناك ملامح تقارب تركي ـ أميركي لتعزيز مطالبهما من محمد بن سلمان تبدّت في إطلاق سراح القس الأميركي اندرو برونسون المتهم بالتجسّس على تركيا، وكان يمضي عقوبة بالسجن لثلاث سنوات ونصف، نفذ منها سنتين فقط وأخرجه أردوغان منذ عد أيام كرسالة محبة إلى «أخيه» في «صفقة الخاشقجي» ترامب.
يبدو أنّ الرئيس الأميركي يجد في هذا الموضوع فرصة هامة لفك الحصار السعودي الإماراتي على حليفته قطر، التي تمتلك بلاده فيها نفوذاً واسعاً. ولا بأس بالنسبة إليه، من تغطية سعودية لدوره في سورية والعراق، حيث يتنافسان عملياً منذ باشرا بتخريب الدولتين إنما بمشاريع متباينة للسيطرة، حتى أن الطرفين يتصارعان عملياً على قيادة العالم الإسلامي وسط تراجع سعودي كبير في الشرق الأوسط، سببه خسارة التنظيمات الإرهابية الموالية للرياض في سورية والعراق.
لكن هذا لا يبعد فرضية بحث تركيا عن «عوامات» سعودية لاقتصادها المنهك.. وهذه الأمور مدار تفاوض بين الطرفين على وقع صراخ أردوغان الزاعم انه يبحث عن الحقيقة في اغتيال الخاشقجي.
لجهة ترامب، فإنّ آخر اهتمامات بلاده هي حقوق الإنسان وحريات الإعلام في العالمين الإسلامي والثالث، فحجم ما قتله الأميركيون من هؤلاء منذ 1945 يتجاوز عشرات الملايين من دون احصاء الاغتيالات التي تشمل السياسيين والإعلاميين ورجال الدين وكلّ مَن يتسبّب للهيمنة الأميركية بإزعاج بسيط.
ماذا يريد ترامب إذاً؟
ينطلق من فرضية أنّ السعودية متجذرةٌ في «زنزانة» النفوذ الأميركي التاريخي ولا قدرة لها على الخروج منها بالاحتماء بنفوذ خارجي آخر.. فلا أحد يتجرأ على مصارعة واشنطن في الخليج النفطي والاستهلاكي والغازي، قد تتسلّل قوى إليه بالتدريج. وهذا الأمر على هذا المنوال منذ 1945، فقد تستاء دولة خليجية من قرار أميركي وتسجل غضبها وسرعان ما تنساه.
استراتيجياً يعتبر الأميركيون أنّ مشاريع ولي العهد محمد بن سلمان في سورية والعراق ولبنان واليمن وإيران أدّت إلى تراجع النفوذ السعودي وتسبّبت أيضاً بتقلص النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وهنا مكمن الخطورة.
كيف حدث هذا الأمر؟ منذ مرحلة الرئيس الأميركي السابق أوباما، اتخذت واشنطن قراراً بعدم التدخل العسكري المباشر والكبير خارج بلادها وأصبحت تعتمد على تحالفاتها الإقليمية بعد 2003 تاريخ غزو العراق، وذلك بأهداف وقف تراجعاتها الاقتصادية… فكانت أن قامت السعودية مع قطر بتمويل مئات آلاف الإرهابيين في بلاد الشام والعراق واليمن، كما أوكلت إلى تركيا فتح حدودها ورعاية الإرهابيين، وكان لكلّ طرف تنظيمات موالية له… تتمتع بالحماية الجوية الأميركية أيضاً.
النتائج كانت كارثية، خسر الإرهاب ومعه الرياض والدوحة ـ وتمسكت تركيا بمناطق في الشمال السوري والعراقي ـ بسبب الحدود المشتركة ـ وحمت تنظيمات فيهما موالية لها.
لذلك تقلّص النفوذ الأميركي الذي راهن على خطته المشتركة مع محمد بن سلمان في دعم الإرهاب.
أما الخسارة السعودية ـ الإماراتية في اليمن فكانت استراتيجية أيضاً، لأنها قتلت تأسيس نظام يمني مؤيد لواشنطن في سياساتها في بحر عدن وباب المندب والطرق المؤدية الى المحيط الهندي. هناك إذاً خسائر استراتيجية تحتاج الى مَن يتحمّل وزرها في امبراطوريات كبيرة كالأميركية…
وهذا التقلص الأميركي لم تتضح قياساته بعد أمام الأميركيين، ويحاول ترامب التغطية عليه بالمزيد من جلب الأموال من الخارج بالابتزاز تارة وفرض الصفقات تارة أخرى.
هذا يؤكد أنّ ترامب ذاهب نحو الاستغناء عن محمد بن سلمان بآخر من آل سعود يدفع ثمن تعيينه ولياً للعهد، نحو 500 مليار دولار جديدة ومزيد من الصفقات الاقتصادية، فتصبح قضية الخاشقجي وسيلة للفرار السياسي من تقلص النفوذ في الشرق الأوسط وتدابير للتعزيز الاقتصادي الداخلي لجذب الناخبين الأميركيين ـ لعلهم يجدّدون له لولاية ثانية!!
وهكذا يتحوّل الخاشقجي إلى ضحية مرتين على التوالي، الأولى حين اغتاله محمد بن سلمان والثانية عندما باعه الأميركيون والأتراك مقابل سياسة ومال ونفوذ.
للإشارة، فإنّ آل سعود يعتبرون مملكتهم حقاً تاريخياً لهم بمفاهيم القرون الوسطى التي كانت تعتبر أنّ من حقوق الغازي الاستيلاء على ما كسبه، ويعتبر آل سعود أن سيفهم «الأملح البتّار» الذي لا يصدأ والفتاك هو الذي أمّن لهم هذه المساحات الشاسعة ملكاً أبدياً لهم، لذلك تبنّوا القراءة الوهابية التي تؤكد الطاعة لآل سعود أولياء للأمور أبديّين فهل بدأ «السيف الأملح» يصدأ؟
انتظروا نتائج الصفقات بين إمبراطورية أميركية لا تشبع أبداً وبين تركيا الطامحة للعودة إلى إمبراطورتيها العثمانية على أساس إعادة حبيب العرب في أقبية السلاطين العفنة.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/10/15