الفن والخلافات السياسية بين الأنظمة … «رحيل الفنان عبدالعزيز جاسم»
علي آل غراش
الفن الراقي النبيل والسامي يتجاوز السياسة والحدود واللغة والعرق واللون والدين، والفنان هو صاحب رسالة إنسانية فوق الانتماء الفكري والسياسي والديني والمذهبي .
فالفنان المحترم هو من يحترم رسالة الفن ليكون محل احترام وتقدير لجميع المشاهدين من بلاده أو خارجه، ولكن للأسف الشديد في العصر الحالي تقوم بعض الأنظمة العربية الفاشلة في إدارة القطر الذي تسيطر عليه – في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي – والتي تعمل على قتل الإنتماء العربي والتمسك بأهم قضية عربية وهي فلسطين والقدس، وتمارس أساليب حقيرة لتدمير روح الإنتماء العربي عبر محاولتها بالزج بشعبها العربي المغلوب على أمره نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب والمحتل للأرض العربية الفلسطينية، واستخدام المواطنين في تصفية خلافتها مع الأنظمة العربية الأخرى، واستغلال الفنانين والمشاهير الذين يحملون جنسيتها في حربها مع تلك الدول، والمؤسف أن بعض الفنانين تخلوا عن رسالتهم الفنية الحقيقة ليكونوا مجرد حطب لنار الخلافات بين الأنظمة الحاكمة .
التمسك بالقيم
تحية لكل فنان واعي يحافظ على فنه وجمهوره داخل وطنه وخارجه فلا يسقط في الخلافات السياسية التي تخدم مصالح الأنظمة فقط بينما تضر بمصالح الأمة وتدمر الوحدة بين الشعوب العربية العاشقة للعدالة والحرية والكرامة والعزة .
الفنان الناجح هو من يتمسك بالقيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية ووحدة الأمة ودعم كل ما فيه خير لشعوبها، وهو القريب من الناس القادر على تجسيد حياتهم الطبيعية مشاكلهم ومعاناتهم وتطلعاتهم وأحلامهم، وطرح الحلول أو إثارة قضية ما من خلال تمثيله بصدق وشفافية وعفوية وبإبتسامة وضحكة .. ، يحب الناس وهم يحبونه، فالناس تحب من يملك قلبا كبيرا يتسع للآخرين ويحرص على إدخال الفرح والسرور لقلوبهم .
من الفنانين المتميزين في صناعة الإبتسامة على وجه المشاهد والفرحة في قلبه هو الفنان القطري عبدالعزيز جاسم – رحمه الله – الذي رحل عن عالمنا بشكل مفاجئ ليشكل صدمة محزنة لمحبيه ومشاهديه على مستوى الخليج العربي وخارجه وليس فقط في دوحة الخليج .
الفقيد ترك بصمة خاصة له لدى المشاهدين خلال مشواره الفني الطويل، لقد استطاع الفنان عبدالعزيز أن يقتحم القلوب قبل البيوت، فلقد كان رسولا لبث الفرح والابتسامة للناس .
لقد شكل الفنان عبدالعزيز جاسم مع صديق عمره الفنان القطري المعروف غانم السليطي ثنائي في عدد من المسلسلات الرمضانية الخفيفة في أيام الثمانينيات أي قبل طفرة البث الفضائي والأقمار الصناعية حيث كان أهالي الخليج في قطر والبحرين والمنطقة الشرقية وبالخصوص الأحساء القريبة لقطر، وفي الإمارات والكويت يحرصون على متابعة تلك المسلسلات منها : عيد وسعيد وفايز التوش وغيرها عبر التلفزيون القطري الذي كان متميزا جدا ببرامجه المتنوعة اعتمادا على البث والإرسال الهوائي الأرضي، وكانت تلك الأعمال متنفسا للمشاهد لما تحمله من فكاهة ونقد للوضع الإجتماعي الخليجي بسقف عالي حسب تلك الفترة الزمنية .
الراحل عبدالعزبز جاسم فنان حافظ على بساطته وتواضعه وحبه لعمله واحترامه لفنه والتقرب من الناس طوال مشواره الفني الطويل ووصوله للنجومية لم يتغير ولم يصل الغرور إلى ملابسه، بل بقت روحه متألقة بالبساطة وبحب الناس . لقد كان همه الكبير أن يدخل الفرح والسرور على المشاهد بحركة أو كلمة .
فمن حق هذا الفنان الذي صرف عمره لتقديم أعمال فنية لرسم الفرح والسرور على وجوه وداخل قلوب الناس، أن يقف الناس المشاهدون معه عند رحيله ولو بكلمة ودعاء له بالرحمة والمغفرة وتقديم الشكر .
محبة الإنسانية
شكرا من يحمل قلبا محبا للإنسانية ولكل فنان ولكل مشاهد ومتابع ومحب لفن عبدالعزيز جاسم وبالخصوص من حضر لتشييعه أو كتب كلمة بحق الفنان الراحل .
الفنان الناجح هو من يعمل بإخلاص ليجسد حياة الناس بطريقة فنية عبر الشاشة لأنه من الناس للناس، ورسالته الفنية والإنسانية لا تنتهي بموته بل تستمر، فأعماله شاهدة عليه، فالفنان يبقى حيا ولهذا من المهم أن يختار الفنان الأعمال التي فيه بصمة افتخار وعزة وتحمل أهدافا وقيما نبيلة وسامية، .. فمع مشاهدة تلك الإعمال بعد رحيله تترحم عليه الناس وتذكره بخير .
مؤلم جدا أن يقف بعض الناس مع أو ضد الفنان بسبب الجنسية أو القومية أو الدينية أو المذهبية أو القبلية أو حسب المواقف السياسية في محاولة لتأطيره وتحجيمه، وهذا مخالف لرسالة محبة الفنون في أي مجال، فرسالة الفن الشريف والنبيل والأصيل تتجاوز السياسة والحدود واللغة والعرق واللون والدين .
العائلة المقسمة
من المصائب التي ابتليت بها منطقة الخليج التي كانت بمثابة البلد الواحد، والعائلة الواحدة مقسمة بين تلك الدول بسبب التنقل الطبيعي قبل التقسيم الجيوسياسية لدول حديثة، وكان المواطن الخليجي قبل فترة قصيرة يردد أغنية « خليجنا واحد وشعبنا واحد » ، فجأة أصبح اليوم بمثابة العدو بسبب جنسيته، والسبب سياسة بعض الأنظمة التي تصنف الدولة التي لا تخضع لها بالعدو والأسوأ من ذلك أن تزج بشعبها في مشاكلها وخلافتها السياسية ليكونوا مجرد حطبا لنار صراعاتها أن تجبرهم على تبني مواقفها والإساءة لتلك الدولة ولشعبها لدرجة قطع العلاقة والتواصل، كما حدث من جانب السعودية والإمارات والبحرين الرسمي ضد قطر وشعبها الشقيق، وللأسف أن بعض المواطنين في تلك الدول تبنوا مواقف النظام الرسمي لدرجة الإساءة ومقاطعة الشعب القطري ومنهم الفنانون .
الفنان يتجاوز الحدود والسياسة والجنسية، فلا ينبغي الزج به بالإجبار بتبني القضايا الخلافية، فالسياسة تخضع للمصالح والمصالح تتغير، وربما تعود العلاقة الودية بين رجال السياسة والحكم في أي وقت، بينما الجرح والإساءة للأشخاص تبقى وتسجل على من أساء وبالخصوص للفنان أو غيره .
الفنان الواعي لا يسمح لنفسه أن يكون مجرد كومبارس ومطية لسياسة النظام الحاكم في القضايا التي فيها إساءة للأشقاء، الفن يجمع لا يشتت، والفنان رسول محبة وسلام لا إساءة .
إن الفنان الذي يتهجم على فنان آخر لمجرد أنه من بلد ما أو يحمل أفكارا خاصة مختلفة عنه، فهو غير فنان ولا يحمل فنا أصيلا فالفن ذوق وأخلاق وقيم، وإساءته للآخرين هي إساءة لنفسه وستبقى بصمة عار في تاريخه .
رحم الله الفنان عبدالعزيز جاسم وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان . وتحية لكل فنان يسعى لتقديم أعمال راقية ذات أهداف سامية تسلط الضوء على قضايا الأمة وشعوبها ومشاكل ومعاناة المجتمع وتقدم الحلول الناجعة .
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/10/31