السيد يرسم المشهد اللبناني الجديد فما هي عناصره؟
العميد د. أمين محمد حطيط
أدمن خصوم حزب الله، وأصدقاؤه وحلفاؤه، على وصفه بصاحب «السلوك المزدوج» حيث يبدي التشدّد والقسوة في الدفاع عن الوطن بوجه عدو خارجي ويظهر اللين مع التساهل المفرط بمصالحه ومصالح جمهوره في مواجهة الشركاء في الوطن في الداخل حتى صار مألوفاً أنّ المسألة الداخلية إذا كانت تعني حزب الله فإنّ حلها سيكون سهلاً لأنه سيقبل بحلها على حسابه، فهو رغم الانتصارات الاستراتيجية التي حققها فإنه ومنذ اليوم الأولى رفع شعار لا لصرف الانتصار في الداخل خلافاً لكلّ ما اعتاده العالم في الحلات الشبيهة.
ومن أجل إحياء الذاكرة فقط نعود إلى العام 2000 الذي حقق فيه حزب الله بمقاومته معجزة تحرير الجنوب من «إسرائيل»، ثم معجزة الصمود أمام «إسرائيل» في العام 2006 ثم أرجحية اليد على من أراد النيل من سلاح المقاومة في العام 2008 حيث اكتفى بالدفاع عن سلاحه وتوقف… وكان الحزب في كلّ مرة عرضة لانتقاد جمهوره وعتب بعض النخب الوطنية والشيعية والحليفة التي كانت تعيب عليه هذا التواضع في الداخل، تواضع كان يحول دون وصولهم إلى حقوقهم وكان ردّ حزب الله دائماً ليس في التنازل لصالح شريك في الوطن خسارة.
بيد أنّ سلوك حزب الله في درب التواضع فهم وللأسف على عكس حقيقته ووصف بغير ما قصده الحزب، حيث أنّ خصوم حزب الله اعتبروا هذا التواضع حاجة ضرورية ليحمي الحزب سلاحه، وهو بتنازله يقايض سكوت الآخر عن سلاحه أو تعايشهم النكد معه مقابل تنازله عن حقوق جمهوره، وبالتالي ليس في الأمر فضل أو منة بل حاجة لا يستطيع الحزب سلوك طريق سواها.
أما جمهور الحزب وأصدقائه فكانوا فئات ثلاث، فئة اقتنعت بسلوك الحزب في الداخل وأيّدته فيه وبرّرت الأمر بأنّ مسار الحزب استراتيجي يتعدّى الحرتقات والمصالح الداخلية المادية الضيقة حتى ولو كانت بحجم المطالبة بوزير او مدير أو موظف ما إلخ… وفئة ارتضت الأمر على مضض وسكتت ثقة منها بقيادة الحزب وخاصة أمينه العام الذي تحوّل إلى رمز يؤرق العدو، وفئة ثالثة رفضت هذا السلوك ولكنها التزمت النقد البناء في الغرف المغلقة دون أن يخرج نقدها إلى العلن حرصاً على تماسك الحزب وهيبته، دون أن تمنع من أن تفلت بين الحين والآخر كلمة نقد أو اعتراض من هنا أو هناك من أصوات لا تنتمي إلى الحزب تنظيماً.
واستمرّ الحزب بالتعامل مع المسألة الداخلية بذهنية التواضع والتساهل تلك إلى أن تفاقم الوضع الداخلي وبات يشكل تهديداً لجمهوره وللدولة كلها، ما اضطر الحزب إلى مراجعة أدائه الداخلي واضطره للانخراط في الحياة السياسية اللبنانية وفقاً لما يقتضي واجبه الوطني لتكامل الدفاع عن الوطن بين الداخل والخارج، إذ أنّ المقاومة لا يمكن أن تستمرّ أنْ لم يكن هناك شعب يحتضنها ويرفدها، شعب يجب أن يكون قادراً على العيش براحة وكرامة واكتفاء، وهذا لا يتحقق أنْ لم يكن هناك دولة قادرة وعادلة ومتماسكة تؤمّن لهذا الشعب احتياجاته، فالدولة هذه بنظر حزب الله حاجة ملحة لا يمكنه الحلول مكانها في وظائفها كما لا يمكنه التعويض عن تقصيرها أو عجزها أنْ وقع، وهنا ظهرت الحاجة للانخراط في الشأن العام كونه وجهاً من وجوه حماية المقاومة عبر حماية المصالح الحياتية والاجتماعية للشعب.
وفي إطار المراجعة هذه خرج الحزب كما يبدو بقرارات ثلاثة كبرى، الأول محاربة الفساد وبناء دولة القانون العادلة والصالحة والثاني توفير حقوق المواطن بالقدر الممكن ووضع حدّ لسياسة الإغراق بالديون لإفلاس الدولة، والثالث المحافظة على قاعدة جمهور المقاومة الأصلي والحليف وتوسيعها وطنياً إلى أوسع نطاق ممكن دون أن يشكل هذا الأمر استفزازاً لأحد. وقد كانت قرارات الحزب في هذا الشأن صريحة وعلانية إلى حدّ أنّ بعضها أعلنه السيد حسن نصر الله بنفسه.
هنا ولدت مشكلة للحزب مع أكثر من جهة سياسية خاصة أولئك الذين يناسبهم الوضع القائم، بمن فيهم بعض الحلفاء والأصدقاء فضلاً عن الخصوم، مشكلة يرتبط بعضها إلى تحسّس من المسّ بالمصالح الذاتية إذا مضى الحزب في سياسته الداخلية الجديدة هذه.
في ظلّ هذه القناعة جرت الانتخابات النيابية الأخيرة التي أعلن الحزب أنه يخوضها من أجل بناء الدولة التي يحارب الفساد فيها من أجل المواطن ويخوضها مع حلفاء واضحين وانتصر الحزب في الانتخابات فوق ما توقع وجاء موضوع تشكيل الحكومة، هنا رأى الحزب أن يسهّل التشكيل للحدّ الأقصى للانصراف إلى بناء دولة بلا فساد فقبل بحصة أقلّ مما يستحق هو وحركة أمل قبل بـ 6 بدل 9 أو 10 وقبل بتخطي توزير علوي هذه المرة، لكنه لم يتساهل في النقطة الأخيرة المتعلقة بتوزير سنة 8 آذار لاعتبارات وطنية واستراتيجية فهؤلاء من التيار القومي العربي نصفهم في المؤتمر القومي العربي وهم جميعاً من مناصري لا بل هم من صلب تيار المقاومة، وكانوا جميعاً وفي أحلك الظروف من المدافعين عنها رفضاً للفتنة السنة الشيعية، وبالتالي تكون مسألة توزيرهم مسألة استراتيجية مطلقة تتعدّى موقع وزاري لتشكل إقراراً بحجمهم التمثيلي لشريحة واسعة من الطائفة السنية التي حاول تيار المستقبل منذ العام 2005 أن يصبغها بصبغة تناقض تاريخها وحقيقتها ويجعلها ضدّ المقاومة وأداة للدول الرجعية العربية التي تلهث اليوم للتطبيع مع «إسرائيل».
لقد كان ممكناً للحزب أن يشكل تكتلاً وطنياً واسعاً منه ومن أمل والمردة و»القومي» والبعث والناصري والإسلامي ويصل إلى 45 نائباً يحق لهم 11 وزيراً من كلّ الطوائف، لكنه لم يفعل عملاً بسياسة التواضع والتسهيل، وارتضى أن تكون الحصة 8 بدلاً من 11 على أساس 6 للشيعة وواحد للمردة وواحد للسنة المستقلين. لكن الفريق الذي يفسّر خطأ تواضع حزب الله، استخفّ بالمطلب المحق العادل ورفض الاعتراف بأيّ حق للسنة المستقلين هؤلاء.
هنا، ومع هذا السعي والتفسير الخاطئ وضع الحزب في موقع لا يمكنه من الاستمرار بسياسة التساهل للتسهيل لأنه أنْ فعل سيكون تنازل وتفريط بموقع وتضييع لحقوق وهذا سيرتدّ سلباً وبشكل قاس على المقاومة ذاتها، وهذا ما لا يمكن أن يسكت الحزب عنه، لهذا كان ذاك الخطاب الصريح والمنطقي والواقعي والسردي للحقائق الذي أطلقه السيد حسن نصرالله في الاحتفال بيوم شهيد حزب الله، وأشهد الشهداء عليه وعلى قراره الجديد «لا تواضع بعد الآن لأنّ التواضع في لبنان غلط»، وهنا سيكون المدخل لرسم المشهد اللبناني الذي لن يكون بعد هذا الموقف كما كان قبله، فما هي عناصر أو صفات هذا المشهد؟
بكلّ وضوح ومن غير مواربة أو تورية نرى أنّ كلام السيد كان قاطعاً لا يحتمل التأويل أو الإبحار بين الحروف والكلمات لاستخراج ما لم يكن السيد رمى إليه في مواقفه، وعليه ومن أجل التسهيل على من يرى نفسه معنياً ومهتمّاً بالشأن نقول وانطلاقاً مما ذكر بأنّ على المسؤولين أن يدركوا ما يلي:
1 ـ لا يمكن الاستمرار في لبنان بوضع اليد على حقوق الآخرين والاستئثار بها خلافاً لما تقرّره الانتخابات، وان التذرّع بنصوص ناقصة في الدستور تعطي صلاحيات غير منطقية لبعض المواقع هو سلوك لن يجدي فمصلحة لبنان أهمّ من النصوص البتراء أو الملتبسة.
2 ـ أنّ إقامة ثنائيات حاكمة بدل التعدّدية الوطنية التي يجب أن تسود هو طريق للتفجير وانهيار الاستقرار بكلّ أشكاله ـ فكما سقطت الأحاديات والثنائيات السابقة ستسقط مثيلاتها مستقبلاً والحلّ يكون بالاعتراف بحقوق الجميع وهذا وحده يبنى الدولة العادلة في إطار الوحدة الوطنية.
3 ـ أنّ الظنّ بانّ الضغط والعقوبات ستدخل حزب الله في دوائر الخوف والتخفي أو الحذر ويلزمه بالخضوع والتنازل هو ظنّ خاطئ، والأفضل أن لا يجرب الحزب وجمهوره في هذا.
4 ـ إذا كانت النصوص القائمة اليوم نصوص تنتج المشاكل فيكون الحلّ في مراجعتها ولا بأس من مؤتمر تأسيسي أو أي صيغة أخرى من ضمن الدستور لمراجعتها، والعقلاء لن تعوزهم الحيلة، وهنا ينبغي أن يعلم الجميع أنه لا يمكن أن تختصر الدولة بشخص لا يكون له بديل أو نائب ويكون له وحده التحكم بكلّ الحياة السياسية والدستورية دون حدّ أو مانع.
أما الإشاعات والمواقف المثيرة من قبيل القول بأنّ الرئيس المكلف يستعمل صلاحيته الدستورية ويرفض الاعتذار كما يرفض التشكيل ويحمّل حزب الله مسؤولية تعطيل البلد، أو القول بأنه سيفرض تشكيلة حكومية دون حزب الله وحلفائه أو القول بالاعتذار ومنع أيّ سني آخر من تشكيل الحكومة الخ… من فرضيات عقيمة فأعتقد أنها كلها فرضيات تجافي العقلانية والمنطق والواقع وترتدّ على أصحابها بسلبيات لا يمكنهم تحمّلها لأن لا حلّ إلا بتشكيل حكومة تعكس خريطة المجلس النيابي، تتحوّل هي بذاتها إلى ندوة حوار أو مؤتمر تأسيسي يعالج الثغرات الدستورية وتسعى إلى إقامة النظام السياسي المتوازن المستقرّ المانع للفساد والتسويف وهدر حقوق المواطن. وحزب الله معني بالسعي إلى ذلك في زمن «ما بعد التواضع»، وهذا ما على المعنيّين أخذه بجدية، فالحزب يرى في هذا السعي دفاعاً عن المقاومة وواجباً حيال جمهورها ولن يتهاون ولن يتساهل فيه.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/11/13