قراءة موضوعية في «ما يُسمّى» استقلال لبنان
د. وفيق إبراهيم
يحتفل لبنان باستقلاله عن الانتداب الفرنسي بتنظيم مهرجانات عسكرية وشعبية وسياسية، توحي ظاهرياً بمدى حرص سياسييه على استقلال بلادهم..
على المستوى الشكلي للاستقلال حصل انسحاب فرنسي في 1943 سبق إعلان الاستقلال فعلياً في 1948، وتأسس على قاعدة إعلان قوات الاحتلال الفرنسي لدولة لبنان الكبير في 1921 مُقتطعاً من سورية كحال الأردن وفلسطين والاسكندرون ومستتبعاته.
إذاً، هو استقلال ارتكز على انسحاب عسكري أجنبي، سلّم البلاد لطبقة سياسية سيطرت عليها المارونية السياسية في الداخل وفرنسا خارجياً.
لكن تراجع الدور الفرنسي دفع لبنان نحو النفوذ الأميركي الصاعد، والنفوذ المصري الناصري.. فانقسمت الطبقة السياسية بين متأمركين وناصريين إلى أن نشبت حرب أهلية في 1958.. أدّت إلى استمرار سيطرة المارونية السياسية، إنما بالتعاون مع السياسيين السنة.. وفرضت على سياسات لبنان وعلى مستوى رئاسات الجمهورية والوزراء ومجلس النواب والسياسات الخارجية، التوافق المسبق بين واشنطن والقاهرة، مع مراقبة عاطفية من الأم الحنون فرنسا، إنما من دون فاعلية.
استمر هذا التوازن في السيطرة الخارجية على لبنان إلى مرحلة هزيمة عبد الناصر في 1967 فانكفأت مصر، وملأت السعودية الفراغ الذي خلفته بالتسلل من باب الرعاية الدينية للسنة، إلى حدود السيطرة بإحكام على جزء من القرار السياسي اللبناني بالتعاون مع واشنطن وبتنسيق غير مباشر مع العدوانية الإسرائيلية.
لكن تسلل حركة فتح إلى لبنان أسهم في بناء دور فلسطيني كبير ومسلح في لبنان أصبح جزءاً بنيوياً من السياسات اللبنانية بتعاونه مع الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط. فأصبح ما يُسمّى الاستقلال اللبناني رهين أدوار أميركية، سعودية، فلسطينية، أدت إلى دخول سورية طرفاً رباعياً كبيراً، الأمر الذي جعل لبنان الرسمي على مستوى مؤسساته الدستورية الجمهورية والحكومية والتشريعية مجرد ملتزمين ينفذون القرارات الدولية والإقليمية المسيطرة على القرار السياسي اللبناني، مع حريات نسبية في إدارة الملفات الداخلية فقط.
بيد أن تطوّر الدور الفلسطيني في حربه مع الكيان الغاصب أدى إلى اجتياح إسرائيلي للبنان، متراجعاً إلى احتلال الجنوب، فسقط الدور الفلسطيني مقابل صعود دور حزب الله الذي نجح بطرد العدو الإسرائيلي بين 1982 و2000، ودحره في العام 2006.
لم يرث حزب الدور الفلسطيني بشكل حبي.. انتزعه أولاً بقتال «إسرائيل» رافعاً حجمه بقتال الإرهاب في سورية والجرود الشرقية، متحولاً فريقاً أساسياً في إنتاج الدور اللبناني، إنما من دون ترجمة هذا الصمود على مستوى احتكار مواقع وظائف في بنى الدولة.. وهذا عجيب في التاريخ السياسي اللبناني، لأن ازدياد قوة الطوائف في لبنان كان يتمّ تجسيده على مستوى احتكار أجزاء من البنى الدستورية والإدارية في لبنان.
تريد هذه القراءة السريعة تبيان مدى ابتعاد لبنان عن الاستقلال الفعلي، على قاعدة أن الاحتلال العسكري المباشر على النمط القديم كان يؤمن الهيمنة السياسية والاقتصادية.. لكن الاحتلال اليوم ما عاد عسكرياً فقط.. فأصبح اقتصادياً وسياسياً من دون ضرورة التدخل العسكري، ولبنان هو النموذج المثالي.
وهي القوى الخارجية التي تحتكر الأدوات الأساسية في سياسات لبنان الخارجية وعلى مستوى رئاساته الثلاث.
الأميركيون والإسرائيليون بشكل غير مباشر، وفرنسا التي أصبحت تطمح إلى العودة إلى لبنان بسبب التراجع الأميركي والتأييد الماروني لها بالعلاقة التاريخية ذات الطابع العاطفي، روسيا الطامحة إلى دور لبناني من خلال دورها في سورية وتمازج الفضاءين السوري ـ اللبناني.
بالمقابل هناك حزب الله الذي يعكس أولاً قوته الأصلية وتحالفاته مع إيران وسورية اللتين أولتاه شؤون لبنان. وهذا يعني أن الحزب قادر سياسياً على تعطيل أي قرار داخلي وخارجي لا يناسب اهتمامات أدواره الرئيسية في مجابهة العدو الإسرائيلي مباشرة من خلال أدوات الدول الغربية.
هناك أيضاً السعودية، التي استفادت من انهيار الدور المصري بعد كامب ديفيد 1979، وشكلت بديلاً منه في لبنان ومعظم العالم العربي… ولا تزال السعودية تؤدي دوراً وازناً في الداخل اللبناني لأنها نجحت في الإمساك بالسنة أولاً وقسم لا بأس به من المسيحيين في السياسة والكهنوت، ولديها نفوذ عند الوزير وليد جنبلاط والغالبية الدرزية التي تواليه مع هامشيين شيعة ومن طوائف مسيحية مثل الأرثوذكس والكاثوليك.
إذاً، كان لكل من هذه القوى الدولية حصتها في القرار السياسي اللبناني، فأين هو هذا الاستقلال المسحوق تحت نعال القوى المتدخلة؟
وهل سبق للبنان أن انتخب رئيساً للجمهورية أو شكل حكومة من دون موافقة دول الوصاية؟
وهل تجرأ أحد على الدفع باتجاه اختيار رئيس مجلس من خارج نصاب حزب الله، إيران، أمل وسورية؟!
هذه محاصصات شبه علنية تعلن للقاصي والداني أن القرار اللبناني ليس إلا ثمرة تحاصص دولي وإقليمي.. أما الداخل السياسي فمجرد متلقٍ للقرار الدولي، يخرجه بشكل يبدو أنه من صناعته، وهذا يعني أنه يضحك على اللبنانيين بإيهامهم بقوته «الهزلية».
وكيف يمكن لرجل أعمال من أصول لبنانية أن يظهر على المسرح السياسي فجأة وليس له تاريخ فيه، ويتمكن من الوصول إلى رئاسة مجلس الوزراء عاكساً تأييداً سعودياً أميركياً ومتمكناً في ما بعد من جذب التأييد السوري له.
والظريف أن هذا الاقتصادي أورث الموقع الرئاسي لإبنه في بلد لا يحتوي على نظام سياسي وراثي.
وكيف يمكن لسياسي آخر أن يترأس مؤسسة دستورية أخرى منذ 30 عاماً لولا الأدوار القائمة على التسويات؟
فهل هذا استقلال؟
يصادف أن قوى الوصاية تركت إدارة السؤون الداخلية للقوى اللبنانية، وحمتها في سرقة الدولة والكهرباء والديون والمياه والنفايات والصناديق، والدليل أن ديوناً بقيمة مئة مليار لا يعرف أحد كيف أنفقت ولا يُحاسَب مَن سرقها.. فهل هذا استقلال؟
إنها الحمايات الإقليمية والدولية التي حولت لبنان مستودعاً لطوائف وتشجعها على التناحر السياسي.. وتمنعه أيضاً من تشكيل حكومة جديدة تدير الوضع الداخلي وتمنعه من الانفجار.. لقد منعت السعودية تشكيل الحكومة خمسة أشهر باختلاق عقد مسيحية ودرزية.. وتعاود اليوم منع تشكيلها لجعل لبنان ورقة قوة في جعبة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يفاوض عليها لتمتين وضعه مع الأميركيين الذين يتهمونه باغتيال الخاشقجي، فيصبح لبنان واليمن والأموال السعودية المودعة في المصارف الأوروبية والأميركية، مجرد بيادق في سلة إبن سلمان تغطي جرائمه في مفاوضاته مع الأميركيين والغرب وتركيا.
فهل لبنان مستقل فعلاً؟
يصبح مستقلاً عندما يرفع الوصاية السياسية والاقتصادية عن مؤسساته السياسية، وينتج حكومة تعكس نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، ولا يقبل بسجن رئيس حكومته والاعتداء عليه في السعودية!
فهل هذا ممكن؟
إنه مستحيل بسبب التناقض المتصاعد بين اللبنانيين، وسهل عندما يتفق هؤلاء على بناء وطن لا منفى وهذا ليس ببعيد.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/11/22