انتخابات البحرين أكدت الأزمة وتجاهلت الحل
د. سعيد الشهابي
ربما ليس هناك بلد عربي يشهد استقطابا حادا بين الشعب وحكومته كما هو الوضع في البحرين. وتكفي نظرة على الظروف التي أجريت فيها الانتخابات «البرلمانية» يوم أمس لاستيعاب هذه الحقيقة. فهناك عالمان منفصلان في هذه الجزيرة الصغيرة التي تكاد تغرق تحت وطأة القوات الأجنبية المتنافسة على النفوذ. هذا الاستقطاب ازداد وضوحا في الأسابيع الأخيرة عندما أصبح هناك ما يشبه لعبة شد الحبل بين طرفين تتوسع الفجوة بينهما يوما بعد آخر.
المشهد من الجانب الحكومي يختلف جملة وتفصيلا عما يجده المرء عندما ينظر من جهة الشعب. فعلى الصعيد الرسمي يتم إظهار صورة هذا البلد المضطرب وكأنه يعيش «عرسا ديمقراطيا» ومناخا من الحرية وعالما حقوقيا لا ينقصه شيء. فهناك «البرلمان» كمؤسسة تشريعية دونها الكونغرس الأمريكي أو قصر ويستمنستر، فهو يصدر التشريعات المتطورة التي لا تخضع لتأثير أحد سوى «الأعضاء المنتخبين» ولا تراعي سوى مصلحة الوطن والمواطنين. أما الإعلام فلا يضاهيه أي من وسائل الإعلام الدولية، فهو يمتلك الحرية الكاملة ولا ينطق إلا بالحق ولا يخضع لتأثير احد سوى ضمير العاملين به. ويتم توجيه ضيوف الدولة لـ «المؤسسات الحقوقية» ومن ضمنها اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان و «الهيئة الوطنية للتظلمات». ثم هاك مؤسسة القضاء، وما أكثرها نزاهة واستقلالا عن السلطة التنفيذية، وما أبعده عن الاعتبارات الأخرى حين ينظر في التهم الموجهة لآلاف الشباب. هؤلاء القضاة يؤسسون أحكامهم على ما يمليه عليه ضميرهم، بدون انحياز لأي طرف. فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، وان على المدعي إثبات التهمة وليس المتهم.
وعلى الجانب الآخر، تختلف عدسة المواطنين في ما تراه. هذه العين ترى الصورة مقلوبة تماما. فتنظر للبرلمان مؤسسة تابعة للحكومة بلا حرية أو صلاحيات. وتعتبر من ترشح لها إما مأمورا أو انتهازيا أو خائنا لشعبه أو هامشيا في حياته. هذا المجلس، في نظر الغالبية القصوى من الشعب، سلاح ضد «الثوار» الذين استجابوا لنداء التغيير الذي انطلق من ألسنة اللهب التي أحرقت الجسد الضعيف لذلك الشاب التونسي، محمد بوعزيزي. هذه العين ترى الإعلام بوقا دعائيا يصفق للسلطة التي تصادر حرية التعبير وتعتقل من يطرح موقفا أو رأيا مختلفا عما تطرحه الحكومة. وتنظر للمنظمات التي أسسها النظام بعنوان حقوق الإنسان أسلحة لمواجهة الحقوقيين والتعتيم على العشرات منهم الذين يرزحون في السجون. هذه العين ترى مشهدا دمويا كل يوم. هذه العين تستحضر مشهد الشهيد محمد جمعة الشاخوري الذي استشهد بالرصاص في سبتمبر 2001 وهو يتظاهر أمام السفارة الأمريكية في المنامة احتجاجا على قتل الشهيد محمد الدرة بأرض فلسطين.
الانتخابات الأخيرة تصلح لتكون بداية فصل من مسرحية طويلة، لكنها لا تصلح لان تكون نهايتها. فقد أقيمت انتخابات مماثلة في العام 2014 ولم تؤد لاستقرار البلاد ولم تحقق للشعب أمنه
هذا الاستقطاب الواضح انعكس بجلاء في الانتخابات التي انتهت قبل يومين بحضور شعبي باهت كاد يصل في بعض المناطق إلى الصفر لولا التهديدات بالانتقام. كما انعكس في تراجع الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي التي كانت من أهم منابر الثورة في العام 2011. فبعد أن أصبحت تغريدة واحدة لا تعجب الحكم كافية لسجن صاحبها ما بين ثلاثة وخمسة أعوام، تردد الكثيرون في الكتابة وهجروا تلك الوسائل. وحقا أصبحت «مملكة الصمت» مقبرة لحرية التعبير ومصيدة لمن يطرح وجهة نظر مختلفة عما يريده النظام. فانتقاد العدوان على اليمن وتسمية السعودية أو الإمارات أو البحرين كجهات مسؤولة عن ذلك العدوان يعني السجن والتنكيل. وسائل الوسائل الاجتماعي هجرت كذلك بعد أن اعتقلت السلطات النائب السابق عن جمعية الوفاق، علي العشيري، بعد أن غرد قائلا انه وعائلته لن يصوتوا في الانتخابات. كان ذلك كافيا لاعتقاله والتحقيق معه، وليس مستبعدا أن توجه له تهمة التآمر على الحكم أو التخابر مع الحرس الثوري الإيراني أو مع قطر. وحين يصرح رئيس مجلس النواب المنحل، احمد الملا بان من لا يدلي بصوته في صناديق الاقتراع سيتعرض لتأجيل طلبه للحصول على منزل وسيتأخر دفع راتب تقاعده. في الانتخابات السابقة فرضت الحكومة على المواطنين إحضار جوازات سفرهم عند التصويت ليختم فيه أن صاحبه شارك في ذلك. واستخدم ذلك لاحقا للتنكيل بمن استخدم طريقة العصيان المدني احتجاجا على تلك الانتخابات التي تهدف لتضليل العالم بوجود مشروع ديمقراطي يشارك فيه المواطنون بحرية وينتخبون ممثليهم في مجلس تشريعي حر، ويتمتع كل منهم بحصانة برلمانية ويحظى براتب دسم.
الانتخابات التي أجريت في البحرين هذا الأسبوع تجسيد صغير لحالة استبداد واسع في العالم العربي، تضخم كثيرا بعد أن ضرب تحالف قوى الثورة المضادة (السعودية والإمارات ومصر والبحرين زائد «إسرائيل») كافة ثورات الشعوب العربية وضحى بأمن المنطقة واستقرارها وتماسكها الاثني والديني والمذهبي من اجل بقاء المنظومة السياسية التي حكمت المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية. هذه الحالة تدفع أحيانا نحو اليأس والقنوط، وأخرى نحو شيء من الأمل يلوح من بين جراح جيل الثورة المقموع بلا رحمة. الأمر المؤكد أن الشعوب التي قمعت لن تقبل يوما مقولة أن الانتخابات تعني الديمقراطية، ولن ترضى بأقل من مشاركتها الحقيقية في تقرير مصيرها وكتابة دساتير بلدانها وانتخاب حكوماتها. فالظلامات التي ارتكبت خصوصا في مصر والبحرين (كونهما حالتين متشابهتين أكثر من غيرهما) نمط جديد من التعامل السلطوي مع الشعوب العربية. ومع تعمق ظاهرة التطبيع مع أعداء الأمة الذين احتلوا أراضيها وهيمنوا على ثرواتها ونهبوا مئات المليارات النفطية في مقابل ضمان بقاء عناصر حاكمة مارست جرائم ضد الإنسانية غير مسبوقة، تصاعد غضب الشعوب وتحول إلى موروث ثوري يختزن تدريجيا في صدور الآباء والأمهات الذين شعروا بانتكاسة كبرى في تاريخهم عندما انقضت قوى الثورة المضادة التي لم ترحم أحدا قط. أما طرق علاج هذه الظواهر التي تزيد الناس إحباطا ويأسا فلا يمكن اختزالها بإجراء انتخابات صورية مزيفة تستخدم كسلاح ضد المعارضين وأنماط مزيفة من المنظمات الحقوقية والمجالس التشريعية. لم يكن شباب ثورات الربيع العربي يبحث عن نسخ مزيفة للديمقراطية وحقوق الإنسان، بل كان يأمل أن تحترم إنسانيته ويحقق حريته وحقوقه بدون مساومة أو تزييف. لا تريد الشعوب العربية وشبابها الناهض أن يبدأ التاريخ من جديد ليعيد اكتشاف العجلة وكأن أحدا لم يكتشفها من قبل. ولذلك كان الغضب هو الظاهرة التي أدركها الإعلاميون المستقلون وهم يتجولون بين مناطق البحرين وقراها ليستمزجوا آراء المواطنين. هذه الظاهرة أدركها المهتمون بالشأن البحراني في برلمانات الدول الديمقراطية، فأصدروا للمرة الأولى بيانات ضد هذه الانتخابات اعتبرها نظام الحكم عدائية. هذه البيانات اشتركت في المطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين، وإلغاء قرار حظر الجمعيات السياسية المستقلة من المشاركة، ودعوا لمحاكمة الجلادين والمعذبين، كما طالبوا بإصلاح سياسي يلغي هيمنة الحكام الحاليين ويوفر وسائل لمراقبتهم ومحاسبتهم. فحين يصدر برلمانيون ايطاليون وأعضاء كونغرس أمريكيون وبرلمانيون بريطانيون وأعضاء بالبرلمان الأوروبي بيانات تشترك في أغلب هذه المطالب فهذا يعني أن هناك استيعابا دوليا لمعاناة أهل البحرين وان ما تقدمه الحكومة لم يرق إلى مستوى تطلعاتهم، وأن سياسات القمع التي أدت لسجن أكثر من 20 ألفا ما يزال أكثر من خمسهم يرزح وراء القضبان، وقتل أكثر من مائتين من المواطنين بالرصاص الحي والمطاطي والتعذيب والإعدام، وسحبت جنسيات حوالي 800 مواطن بسبب معارضتهم نظام الحكم لم تحقق الكثير لمنظومة الحكم.
وماذا بعد؟ الانتخابات الأخيرة تصلح لتكون بداية فصل من مسرحية طويلة، لكنها لا تصلح لان تكون نهايتها. فقد أقيمت انتخابات مماثلة في العام 2014 ولم تؤد لاستقرار البلاد ولم تحقق للشعب أمنه. هذا يعني أنها لا تعدو كونها كبسولة تخدير ضعيفة ومحدودة الأمد، تخفف الألم قليلا ويبقى المرض بلا علاج.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/11/26