لبنان في صراع بين متناقضين: سلاح المقاومة والطائفية
د. وفيق إبراهيم
يشهد الكيان السياسي اللبناني صراعاً حاداً ومتصاعداً بين آلية تعمل على حمايته من الأخطار الخارجية وأخرى تجهدُ لتفتيته من الداخل. ما هي هذه الآليات؟ ومن ينتصر منهما على الآخر في هذا القتال المكشوف؟
الآلية الأولى هي المقاومة المنبثقة من معاناة شعب بكامله رزح طويلاً تحت عسفِ احتلالات «إسرائيلية» متعاقبة لا تزال حتى اليوم تشكل الخطر الأكبر على مياه لبنان وثرواته من النفط والغاز وأراضيه.
أما الآلية الثانية فهي الطائفية المعتمدة في الدستور اللبناني الراعي للنظام الطائفي المتجسّد في زعامات الطوائف المحتكرة للسلطة.
وبما أنّ هذا النوع من الأنظمة يقوم ويستمرّ على أساس استيلاد صراعات ضرورية بين المكوّنات المذهبية والطائفية وذلك لتحقيق أكبر قدر ممكن من الامتيازات والمصالح والمواقع، فهذه الألعاب تؤسّس لتوتر دائم في العلاقات بين فئات اللبنانيين وفي الشارع بما يخدم حاجة الطبقة السياسية المتنوّعة طائفياً لهذه الانقسامات الشعبية.
فبذلك تبرّر إصرارها على تحاصص المال العام والمؤسسات الرسمية بلعبة شدّ حبال واشتباكات إعلامية تبدو وكأنها حِرصٌ على حقوق الطوائف والمذاهب، لكن هذا النوع من الصراعات ينتهي غالباً الى تسويات على قاعدة توزيع الأسلاب والمغانم بين زعامات الطوائف وأنصارهم، والناس تُصفّقُ! وتزداد إحساساً بالطائفية واستسلاماً لها.
في المقابل هناك مقاومة تهتمّ بالدفاع عن لبنان من خطرين وجوديين، أحدهما خارجي هو الكيان «الإسرائيلي» والثاني خارجي داخلي هو الإرهاب «الإسلاموي» الرافض للآخر والداعي لقتله، أو المنتمي إلى فئات طوائفية لا تتورع عن التعامل مع «إسرائيل» لتحقيق غلبة لطوائفها في الداخل على حساب الطوائف الأخرى.
وبما أنّ المقاومة تمتلك هذين الدورين الكبيرين وتؤدّيهما بجهادية بارعة على مستوى تحقيق الأهداف، فإنّ أعداءها في الداخل والخارج ليسوا هامشيين ويتعاونون لوضع العراقيل أمام حركتها في كلّ مكان.
أولى هذه العراقيل هي شرعيتها، لذلك يقولون أنها ليست دستورية كحال الجيش اللبناني الذي يشكل إلى جانب القوى الأمنية الأخرى مؤسسات دستورية وطنية تحظى بإجماع وطني.
ولا يَجهدُ أنصار المقاومة لتقديم إجابات وافية ذاهبين بداية إلى ظروف تأسيسها، والمناخات التي كانت سائدة، فبعد مرحلة زمنية طويلة من اعتداءات «إسرائيلية» على جنوب لبنان والبقاع وصولاً إلى العاصمة بيروت وبعض أنحاء الشمال عجزت القوات الفلسطينية مع بعض المقاومات اللبنانية من إيقافها.
لا بل تمكنت «إسرائيل» من اجتياح لبنان حتى بيروت في 1982 وطردت المقاومة الفلسطينية إلى خارج لبنان.
الميزة الأولى لهذا الصراع اتسمت بعجز الدولة اللبنانية صاحبة السيادة والأرض عن المجابهة فمارست سياسة حيادية كانت تكتفي بموجبها بإيصال النازحين اللبنانيين إلى مراكز إيواء أو إلى الحدود السورية.
سبب هذا العجز هو رفض «الغرب» تسليح الجيش اللبناني بنوعيات قادرة على المجابهة ولم يكتف التحالف الأميركي الأوروبي بذلك، بل منع لبنان من شراء أسلحة من أيّ مكان آخر وخصوصاً روسيا وحلفائها.
أما الميزة الأخرى فتجسّدت في اشتراك أحزاب لبنانية من الكتائب وحراس الأرز ولاحقاً القوات في الغزو «الإسرائيلي» للبنان حتى أنّ بعض قيادة هذه الأحزاب كان على متن دبابات «إسرائيلية» كانت تجتاح بيروت.
للملاحظة، فإنّ عجز الجيش وتورّط قسم من اللبنانيين مع العدو أدّيا إلى ولادة مقاومة لبنانية طغى عليها اللون الشيعي بسبب انتماء الشيعة إلى المناطق التي تحتلها «إسرائيل». وهذا لا ينتقص من وطنية الطوائف الأخرى لكن النظام الطائفي اللبناني يُسيء إلى كلّ شيء بما فيه الموقف من المحتلّ.
وكان حزب الله هو هذه المقاومة التي تمكنت بين 1982 و2000 من تحرير جنوب البلاد ودحر المحتلّ «الإسرائيلي» كما نجحت في 2006 في منع احتلال آخر، وبنت موازنات قوى «برية» للمرة الأولى منذ تأسيس الكيان الغاصب 1948 تقوم على منع أيّ اختراق أو عدوان على لبنان، بيد أنّ أجواء البلاد ومياهها الإقليمية لا تزالان عرضة لاختراقات «إسرائيلية» يومية.
لقد أدّت هذه الانتصارات إلى نشوء ثقافة مقاومة شعبية عميقة أصابت قسماً هاماً من اللبنانيين وأسّست للمقاومة محوراً عابراً للطوائف مؤيداً لها أتاح لها فرصة التصدّي للإرهاب المتطرف في سورية وشرق لبنان وإلحاق الهزيمة به، وأسهمت بخبراتها الأمنية بدعم الأجهزة الاستخبارية في معالجة الإرهاب في الداخل.
هذا نموذج من أداء مقاومة الأخطار الخارجية والداخلية المهدّدة للبنان كياناً وشعباً ودولة، في المقابل يمارس النظام الطائفي تفاعلاته الداخلية وكأن لا علاقة له بما تقوم به المقاومة من حروب ضدّ «إسرائيل» والإرهاب معاً، فيذهب إلى صراع بين زعامات طوائفه لاحتكار المناصب والمواقع والامتيازات والمال العام. بما يؤدي الى إثارة التباينات الداخلية العنيفة في معظم الأحيان، فتنعكس بشكل يمنع تشكل شعور وطني جامع حول أدوار المقاومة وتُعززُ مظاهر الانقسام الوطني، بما يستولد خلافات داخلية حول كلّ شيء.
ففيما يؤيد القسم الأكبر من اللبنانيين المقاومة، تذهب أحزاب الزعامات الطائفية إلى مطالبة الأمم المتحدة بالتدقيق في مزاعم «إسرائيل» حول الأنفاق من الجهة اللبنانية وتدعو اليونيفيل إلى التفتيش في قرى الجنوب، كما تنتقد الدولة لتهاونها في السكون عن حفر الأنفاق. فهل هذه أحزاب لبنانية؟
هذا ما يكشف مدى الخلاف بين المقاومة والطائفية، فالأولى تدافع عن وطن وشعب واحد فيما تدك الثانية الوحدة الداخلية لهذا الشعب من اجل مصالح قياداتها فقط.
أما مَن هو المنتصر في هذا الصراع فيجب الاعتراف بأنّ هذا النظام السياسي الطائفي لديه تغطياته العربية والإقليمية «والغربية» حتى أنّ «إسرائيل» تفضله عن غيره من الأنظمة الحديثة.
لذلك فهو صراع طويل لن ينتهي إلا بسقوط الطائفية لأنّ التاريخ قطارٌ لا يسير إلى الوراء.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/12/19