أزمات العراق في خدمة الاحتلال الأميركي!
د. وفيق إبراهيم
الرئيس الأميركي دونالد ترامب تسلل إلى العراق في زيارة سرية لقوات بلاده المرابطة فيه، لكنه غادره على طريقة المستعمرين مطلقاً برنامجاً بتحويل العراق قاعدة كبرى لعمليات جيشه في أي مكان وزمان لا سيما في سورية.
يشي هذا الكلام بوجود تمكّن أميركي كبير بالسيطرة على أرض الرافدين، فهل هذا صحيح وممكن مع دولة فيها 35 مليون نسمة وشبه مكتفية اقتصادياً وزراعياً؟
أو هكذا هو المفترض مع بلد لديه كلّ أنواع الثروات ولا تنقصه خبرات تاريخية تجسّدت في صراعات سياسية داخل جيشه وبين أحزابه القومية والوطنية والطائفية والعرقية، حتى أن الانقلابات العسكرية فاقت العشرات وأدت إلى إشاعة أجواء اضطراب دائم نتيجة الدماء التي أهرقت والتغيرات الدائمة والقسرية في مواقع القوة.
ما أنتج دولة غنية، لكنها غير متطورة، لديها مياه وفيرة لا تزرع وإمكانات نفطية هائلة ولا تؤسس نظام إنتاج دائم، وهي أكبر بلد عربي من الخليج إلى بلاد الشام، ولم تتمكن قياداتها المتعاقبة من نسج صداقات مع أي منهم، كان الحاكم الأخير فيها قبل الاجتياح الأميركي في 2003 صدام حسين معادياً لسورية الأسد والسعودية وتركيا ولم يكن لبلاده أصدقاء جراء سياساته الهوجاء.
أدّت هذه الاضطرابات إلى منع تشكل مجتمع عراقي موحد على الرغم من وجود مواطن عراقي تاريخي يفاخر بهذا الانتماء إنما بعمق شيعي أو سني وكردي في بعض الأحيان وربما مسيحي أو أيزيدي حيناً آخر… الجميع إذاً مع سيادة العراق شرط أن تكون عصبيته الضيقة في السلطة.
هذا ما استفاد منه الأميركيون منذ تدخلهم في العراق في تسعينيات القرن الماضي حتى اجتياحهم له في 2003 بقوات تعدّت مئتي ألف جندي. فاحتلوا بلاد الرافدين من دون مقاومة كبيرة، وبتواطؤ من قيادات كردية وشيعية وسنية كانت تعتقد أن مهادنتها للأميركيين هي الطريق إلى تسلمها الحكم في ارض السواد.
وهذه الانقسامات الداخلية كانت كامنة في مرحلة حكم الدكتاتوريات العسكرية المتعاقبة في العراق منذ خمسينيات القرن الماضي. وعرف الأميركيون كيف يوظفونها لمصلحة بقاء احتلالهم من دون مقاومات تذكر.
وبدأوا بتعزيز الخلاف العربي الكردي إلى درجة تأييدهم لكردستان للتموضع حتى دفعها نحو كونفدرالية وصولاً إلى بناء دولة كردية مستقلة تمسك الشركات الأميركية بمعظم إمكاناتها النفطية والجيواستراتيجية.
فنجحوا ببناء صراع عرقي بين العرب والكرد، لكنهم لم يكتفوا بهذا الانقسام العمودي المستنزف إمكانات بناء مجتمع عراقي موحد، بل أسّسوا ببراعة لصراع شيعي سني كان موجوداً أنما بدرجات معتدلة، فسعّروه بطريقتين: إخافة السنة من مشروع إيراني شيعي يريد السيطرة على العراق وكامل الخليج وسورية ولبنان وإثارة ذعر الشيعة من مشروع داعشي سني يريد السيطرة على السلطة في العراق.
أدّت هذه الصراعات ذات الطابعين العرقي مع الأكراد والطائفي بين السنة والشيعة وأحياناً مع المسيحيين والأيزيديين إلى استنزاف كامل طاقات العراقيين الذين تحولوا إلى لعبة الانغماس في حروب داخلية، كانت لمصلحة تمتين وضع الاحتلال الأميركي فقط، هذا الاحتلال الذي أصبح مرجعاً لكل الطامحين إلى السلطة.
وكان طبيعياً أن تتسلل السياسة إلى قلب الطوائف والأعراق نتيجة للأدوار السعودية والتركية والقطرية والإيرانية فأصبح الفريق الكردي ثلاثة تيارات متناقضة وكذلك المحور السني الذي استولد بدوره أربعة مراكز متصارعة.
أما لجهة الشيعة فلم تشذ عن قاعدة التفتت وأدّى الصراع على السلطة بين مكوناتها إلى ولادة تيارات محتربة تكاد تقاتل بعضها بعضاً بالسلاح لولا «التدخلات الخارجية» ذات الاعتبار التي تبذل كامل ثقلها لمنعه، إلى جانب دور المرجعية الدينية الوازنة التي تتدخل لوقف الصراعات قبل انفجارها.
يتبيّن أنّ هناك احتلالاً أميركياً يستفيد من تدخلات قوى عربية وإقليمية مجاورة ليعمّق من أحجام الصراعات العرقية والطائفية والسياسية بين أجنحة كلّ مكوّن، وبذلك يستبيح العراق ويعامله بشكل استهزائي كما فعل ترامب في زيارته الأخيرة.
بالإمكان عرض مثال صغير للاستهانة الإقليمية المتصاعدة بمكانة العراق، فهل هناك بلد يسكت على مضض على قصف جوي تنفذه دولة مجاورة له من دون إبداء اعتراض فعلي له طابع عسكري؟
فكيف تقصف تركيا جبال سنجار العراقية بذريعة وجود إرهاب فيها وكيف تواصل احتلال أراض عراقية في جهات كردستان من دون أيّ ردود فعل عراقية فعلية بل تكتفي ببيان شاجب لا قيمة له؟
ما هو الحلّ؟
لا شك في أنه موجود في وحدة العراقيين اولاً على قاعدة مشروع سياسي وطني يساوي بين المواطنين في السياسة والاقتصاد منتجاً أماناً دستورياً حقيقياً يتيح لكلّ عراقي التصدّي للأخطار الخارجية وأولها الاحتلال الأميركي وما زيارة ترامب الأخيرة للقواعد العسكرية لجيشه المحاذية للحدود مع سورية إلا إعلان بوجود خطة أميركية بمنع التنسيق العراقي السوري – الإيراني وإفهام دول الخليج أن الدور الإقليمي العراقي مكبوح بالاحتلال الأميركي لأرض الرافدين، وبناء عليه فيجب على هذه الدول أن تواصل دفع ثمن هذه الخدمة للأميركيين، وهي حمايتهم من عودة العراق إلى استقراره وعزته.
وهذا يتطلب إعلاناً عراقياً من الدولة باحترام سيادات الدول المجاورة مع تأكيد أنّ شعوبها هي صاحبة الحق الحصري بتغيير أنظمتها وإقامة علاقات مفتوحة مع الدول التي ترفض حتى الآن إقامة علاقات مع العدو الإسرائيلي.
يتضح أنّ علاج أزمات العراق تبدأ بالوحدة الداخلية على قاعدة المساواة والتنسيق مع سورية مع علاقات طبيعية مع الجوار العربي، هذا يؤدي إلى وحدة موقف عراقي من الأميركيين والتعامل معهم على أساس أنهم محتلون يجب أن يرحلوا بأسرع وقت، فهل يأخذ العراق هذه الوجهة؟ المشروع السياسي الوطني هو الطريق إلى هذه الوجهة التي تعيد إلى العراق الدور الكبير الذي يستحقه متعاوناً مع سورية لإنقاذ الشرق من مشاريع التفتيت.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/12/29