تسارع استعادة السيطرة السورية على شرق الفرات ؟
العميد د. أمين محمد حطيط
قبل أن يعلن ترامب إخراج جنوده من الأرض السورية شرقي الفرات، كان أردوغان قد أعلن عن قرار تركي لغزو المنطقة تلك لإنهاء حلم الأكراد فيها بكيان انفصالي، أما الحقيقة التي نراها فقد كانت تنسيقاً أميركياً تركياً يهدف منه كلّ طرف إلى تحقيق مبتغاه منها، أميركا تريد أن تنأى بنفسها عن المركب الغارق وتدفع المنطقة انتقامياً للاقتتال وتدمير إضافي، وتركيا تريد وضع اليد عليها إنفاذاً لحلم توسيع مساحة تركيا والإجهاز على الطموح الكردي. أما ثلاثية استانة فقد رأت في الانسحاب فرصة لعودة المنطقة إلى السيادة السورية رغم طموح تركيا التي تبدي من المواقف المتناقضة والالتزامات المتعاكسة ما يجعل المراقب يحار في فهم الموقف التركي الحقيقي.
فعندما استجابت تركيا للدعوة الروسية الإيرانية للانضمام إليهما في رعاية مسار موازٍ لمسار جنيف المتعثر في البحث عن حلّ الأزمة السورية كانت تبتغي من التموضع في منطقة رمادية قائمة بين محوري الصراع، منطقة تمكّنها من ممارسة سلوك زئبقي يسهل لها التنقل السريع بين المحورين والعمل بسياسة المنشار الملتهم للخشب في الذهاب والإياب.
ظنّت تركيا أنّ الزئبقية هذه ستمكّنها من الابتعاد عن المواقف أو المكوّنات الخاسرة في الحرب والاشتراك في تقاسم الأرباح مع الفريق أو المحور الرابح، ما أدخل الكثير من المراقبين أو المعنيين في حيرة من الأمر لدى محاولة تفسير السلوك التركي المتناقض، حيرة شملت أيضاً تفسير صبر روسيا وإيران عليها وهما الحليفان العضويان لسورية وشركائها في الدفاع عنها، وكان السؤال المطروح دائماً كيف توفق هاتان الدولتان بين صداقتهما في آن معاً لطرفين هما على أعلى درجات من العداء والمواجهة؟
فتركيا هي الدولة الأكثر عدوانية لسورية منذ بدء العدوان عليها، وهي لم توفر فرصة للإضرار بسورية إلا واستثمرتها، وتركيا قادت موجة العدوان الأولى تحت عنوان «إسقاط سورية» لإلحاقها بالإمبراطورية العثمانية المزمع تشكيلها، وتركيا كانت البوابة لدخول أكثر من 80 ألف إرهابي من أصل 110 آلاف مسلح أجنبي دخلوا إلى سورية، وتركيا كانت معبر التصدير الوحيد للنفط السوري المنهوب بيد داعش وبقية المجموعات الإرهابية، وتركيا دمّرت البنية التحتية الصناعية في حلب واغتصبت آلات أكثر من 1200 معمل، وتركيا شكلت ولا زالت المأوى لقيادات المعارضة والفصائل الإرهابية التي ترتكب الجرائم في سورية.
تعرف سورية وحلفاؤها روسيا وإيران هذا الدور والتاريخ الأسود لتركيا في الأزمة السورية، ورغم ذلك فتحت لها الأبواب لأستانة. وهنا يكون التساؤل كيف لمن يملك مثل هذا الدور والتاريخ أن يكون شريكاً في صنع السلام وإنجاح العملية السياسية التي تعيد الأمن والاستقرار لسورية؟
ومن جهة أخرى تعلم وتوقن روسيا وإيران بأنّ تركيا وحتى أجل غير منظور لا يمكن أن تراجع علاقتها بالحلف الأطلسي الذي يعتمد ضمناً وسلوكاً استراتيجية هجومية خلافاً لمعاهدة تشكيله، كما يعلمان أنّ تركيا و»إسرائيل» ستبقيان على علاقة استراتيجية عميقة لا تؤثر فيها حالة الصخب والتراشق الإعلامي الحادّ بينهما أحياناً، كما أنهما يعلمان أنّ لتركيا مشروعاً خاصاً في سورية يقوم في حدّه الأدنى على فرض مشاركة الإخوان المسلمين في السلطة وبشكل فاعل ومؤثر فيها رغم الرفض العارم الذي تبديه الأكثرية الشعبية السورية.
ورغم هذا اليقين فإنّ الثنائي الروسي الإيراني اختار العمل مع تركيا لأنه يرى بأنّ ضمّها إلى مظلة استانة وإبقاء الاتصالات معها يبقى خيراً من قطع الاتصال والجفاء، خاصة أنّ لدى كلّ من روسيا وإيران من الأوراق ما يمكن استعماله أو التلويح به للتخفيف أو أحياناً تعطيل أيّ عملية أو موقف أو خطة تركية ضدّ سورية. وعلى هذا الأساس أرسيت العلاقة بين محور المقاومة ومكافحة الإرهاب مع تركيا حيث احتفظت تركيا بمشروعها الخاص وكرّرت المحاولات لتمريره أنْ استطاعت، واحتفظ المعسكر المدافع عن سورية بكلّ أوراقه التي يحدّد متى وكيف يلعبها ضدّ تركيا لمنعها من تمرير هذا المشروع الذي يمسّ بالسيادة والاستقلال السوري.
وعلى هذا الأساس فإنه وبعد قرار ترامب بسحب جنود أميركيين من سورية وجدت تركيا نفسها بمواجهة مباشرة مع أطراف ثلاثة يتحرّكون في المنطقة وإليها التي تبتغي السيطرة عليها شرقي الفرات وهنا سيكون الاختبار الحاسم لتركيا الذي لا تحتمل نتائجه التأويل أو التبرير، اختبار يختلف كلياً عما حصل ويحصل في إدلب ومنطقتها.
ففي إدلب تعهّدت تركيا، ومن أجل منع أو تأجيل العملية العسكرية السورية الرامية لتحرير المنطقة من 65 ألف مسلح وإرهابي، تعهّدت بالعمل تحت مظلة استانة والسير في عملية تفكيك هذه المجموعات سلماً أو حرباً وتهيئة المنطقة لإعادتها وفقاً لآلية خاصة إلى كنف الدولة السورية تزامناً مع إطلاق العملية السياسية التي تبدأ بمراجعة الدستور، لكن تركيا نكثت بتعهّدها متذرّعة بظروف ذاتية وموضوعية تفهّمتها روسيا ما أدّى إلى تجميد ملف إدلب إلى إشعار آخر واعتبرت تركيا نفسها أنها ربحت في زئبقيتها، وأبقت على ورقة إدلب بيدها لاستعمالها في العملية السياسية التي لم تحقق منها حتى الآن شيئاً يطمئنها.
أما في الشمال الشرقي السوري، فإنّ الأمر مختلف كلياً، حيث إنّ الجيش العربي السوري يتحرّك أو يستعدّ للتحرك على وقع ظروف ملحّة نتيجة القرار الأميركي بالانسحاب، والقرار التركي بالغزو، والقرار الكردي المتردّد بالعودة إلى الوطن، ووجود أكثر من 8 آلاف إرهابي من داعش في منطقة سورية ملاصقة للحدود مع العراق وهي الكتلة الإرهابية التي تراها أميركا أداتها ليس لاحتلال الأرض مجدّداً بل لإفساد أيّ مشروع سوري لاستعادة الأمن والسيطرة والاستقرار إلى الشمال الشرقي السوري.
على تركيا إذن أن تتصرّف في ظلّ هذا المشهد الذي يفرض قيوداً كثيرة على تحرّكها في المنطقة. ففي البدء قد لا تتوفر لها فرصة قتال «قسد» التي يبدو أنها تابت إلى رشدها وتعقلنت أمام الخطر التركي وسارعت ملتجئة إلى الحكومة السورية التي لن تضيّع فرصة إعادة الانتشار في منطقة سيطرة «قسد» بعد أن توضع خطط التنسيق والغياب الكردي المسلح منها،
كما لا يمكن لتركيا أن تجازف بمواجهة عسكرية مع الجيش العربي السوري مع الاحتفاظ بموقعها في مظلة أستانة. وهي لو فعلت ستخسر الكثير في علاقتها وزئبقيتها من دون أن تكون واثقة من تحقيق شيء مهمّ في الميدان في ظلّ احتمال مواجهتها من الجيش والشعب وأيضاً «قسد» التي تعتبرها تركيا عدواً إرهابياً.
كما أنّ تركيا لن تقوم بمهاجمة داعش لسببين ذاتي وموضوعي. فداعش تتمركز على بعد 250 كلم من الحدود التركية ولا توجد إمكانية للوصول البري إليها إلا عبر مناطق سيطرة «قسد»، ومن جهة أخرى فإنّ تركيا ليست أصلاً بوارد مواجهة داعش وهي الحليف التاريخي لها في العدوان على سورية.
إضافة إلى كلّ ما ذكر فإننا نرى أنّ تركيا غير قادرة عسكرياً على التورّط في مواجهة برية على كامل مساحة مثلث شرقي الفرات. وهنا نذكّر بالموقف التركي من مسألة إقامة المنطقة الأمنية في السنوات الأولى للعدوان، إذ بعد أن فشلت تركيا في مشروع السيطرة على كامل سورية وانحسر طموحها يومها بإقامة منطقة أمنية في عمق 100 كلم من الحدود مع سورية طلبت من الأطلسي مساعدتها في ذلك، ولما لم تجد استجابة امتنعت عن تنفيذ المشروع لأنها «لن تجازف بمفردها»، على حدّ ما أعلنت.
لكلّ ذلك نقول إنّ شرقي الفرات لن يكون كما تشتهي تركيا وسيكون وبأسرع من المتوقع بيد سورية شرعية ضمن عملية مركبة سياسية تصالحية تتمّ بين الأكراد والحكومة السورية من شأنها تسليم ما أمكن من مناطق للسلطة الشرعية، وعسكرية ينفذها الجيش العربي السوري الذي سيقطع الطريق على أيّ تدخل أو غزو تركي، كما وفي مواجهة داعش التي ستجد نفسها بين فكي كماشة شرقاً من العراق بعد الإجازة التي أعطتها سورية للعراق بقصف مواقع داعش في سورية، وغرباً من الجيش العربي السوري الذي قد تشارك «قسد» معه ووفقاً لتفاهم ما في عمليات المواجهة.
وستشكل عملية الاستعادة إعادة الأطراف إلى أحجامها ويسقط أهدافها غير المشروعة فلا كيان انفصالي كردي يهدّد وحدة سورية و/أو يمس بالأمن القومي للتركي، ولا وجود عسكري أجنبي يمسّ بسيادة سورية واستقلالها بل البدء بكتابة الفصل الأخير من العدوان على سورية الذي لن يبقى بعده إلا إدلب حيث ستكون فيها خاتمة المعارك في حرب الدفاع عن سورية.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/01/03