إيران ستخرج من العقوبات الأمريكية منتصرة
عبد الستار قاسم
أمريكا تحاول منذ عام 1979 كسر إرادة إيران وتدمير النظام السياسي الذي تبلور بعد سقوط شاه إيران. منذ ذلك الحين، وأمريكا تتعاون مع الصهاينة وبلدان عربية لحبك المؤامرات والدسائس ضد النظام الإيراني، والتهديد بالحرب أو شن الحرب عليها كما حصل إبان عهد صدام حسين. الحرب على إيران فشلت، والعقوبات التي فرضتها أمريكا لم تحقق النتائج المطلوبة، والمؤامرات العربية عليها لم تتكلل بأي نجاح. وكان من المفروض أن يتعلم الأمريكيون وعملاؤهم العرب أن مختلف سياساتهم ضد إيران رفعت من صلابة النظام الإيراني وتماسكه، وأن عليهم البحث عن مقاربات بديلة لمقاربة القوة والتبجح والتهديد. لكن الأمريكيين لم يتعلموا الدروس، ولا يريدون أن يتعلمون، ويلجأون من جديد إلى العقوبات والتهديد بالحرب وتجفيف مصادر الدخل المالي. الأمريكيون يفكرون عادة بعضلاتهم وليس بعقولهم، أما عملاؤهم العرب فلا يفكرون، وعاادة تقودهم أحقادهم. ولهذا من الصعب أن يحرز الطرفان نجاحا في محاولاتهم لتحجيم إيران وعزلها وتغيير نظامها السياسي إلى نظام يعمل شرطيا أمريكيا.
من شأن هذا المقال أن يسجل نقاط الضعف والقوة لدى كل طرف في المعادلة، وأن يشرح لماذا ستخرج إيران من هذه الجولة في مواجهة أمريكا منتصرة . هذا لا علاقة له بالانحياز على الرغم من أن الكاتب ضد التواجد الأمريكي في المنطقة العربية الإسلامية، ولا هو ضرب من ضروب التمني، وإنما يقارب المسألة موضوعيا وبطريقة علمية.
نقاط القوة الإيرانية
الموقف الأمريكي من إيران محاصر بعدة نقاط أهمها:
أولا: التجربة تقول إن إيران خرجت أقوى بعد كل أزمة تعرضت لها. هي خرجت بوضع أفضل بعد الحرب العراقية الإيرانية، وأصبحت أكثر صلابة وأفضل خبرة بعد الكم الهائل من المؤامرات العربية ضدها.
وتحملت إيران التحالف الغربي الذي شمل فرنسا وبريطانيا وأمريكا ضدها، ولم ترضخ لكل ما فرضوه من عقوبات وحصار. لكن الأهم أن رد الفعل الإيراني على كل ما تعرضوا له كان تبني فكرة الاعتماد على الذات وتكريس الجهود نحو تطبيقها عمليا. منذ البدء، رأى الإيرانيون أن مخرجهم من كل ما يفرضه الآخرون عليهم من صعوبات هو الاعتماد على الذات وتطوير قدراتهم وإمكاناتهم حتى لا يجدون أنفسهم عالة على الآخرين أو بموقف استجدائي يطلب الرحمة والشفقة.
ركزت إيران على أمرين هامين وهما تطوير سلة غذاء الإيرانيين، وتطوير القدرات العسكرية لتوفير الأمن للوطن والمواطن. وكان في هذا تطبيق لقو ل الله سبحانه وتعالى: “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.” الزراعة بمختلف أشكالها وألوانها تشكل العمود الفقري لسياسة الاعتماد على الذات لأنها هي لقمة الخبز، وهي وجبة الطعام. ومن لا يستطيع توفير لقمة الخبز لشعبه لا يمكن أن يكون صاحب إرادة حرة، ويضطر للاعتماد على الآخرين الذين لا مفر سيتحكمون بسياساته.
وانهمكت إيران أثناء ذلك بتطوير قدراتها العلمية ورفعت من مكانة العلماء في كافة المجالات وشجعتهم على الاكتشاف والابتكار والاختراع. أقامت جامعات محترمة تحرص على التطوير العلمي، وطورت مراكز أبحاث ذات شأن، وأتت بكل ما يلزم من معدات وأجهزة ليتمكن العلماء من شق طريقهم، وخصصت جزءا كبيرا من ميزانيتها للبحث العلمي. ومن ثم توجهت نحو العمل التطبيقي، أي تطوير التقنية. وأصبحت إيران مع الزمن، وهو لم يكن طويلا، دولة رائدة علميا وتقنيا، وما تمكنت من تطويره من أسلحة ومعدات قتالية وعسكرية وأمنية خلال فترة قصيرة تصل هذا العام إلى أربعين عاما، عجزت عنه الدول الغربية خلال فترة نهوضها التقني.
أي أن إيران عملت بجد واجتهاد على توفير الغذاء والأمن الوطني والمدني لشعبها، وحققت إنجازات كبيرة في هذا المجال. إنها متمكنة الآن من الإنتاج الزراعي والحيواني لتصل إلى الاكتفاء الذاتي، ومتمكنة عسكريا بخاصة في البر والبحر.
ثانيا: يتمتع النظام الإيراني بقاعدة شعبية عريضة لديها الاستعداد للدفاع عنه والموت في سبيل بقائه. النظام الإيراني نظام ديني مطعّم ديمقراطيا يستقي قواعده الأخلاقية والحياتية من الشريعة الإسلامية وفق الفقه الشيعي، وفي إيران جماهير واسعة متدينة تؤيد النظام وتحميه. صحيح أن هناك معارضة في إيران. هناك تحرريون ليبراليون وشيوعيون وقوميون ومتغربنون، لكن طاقتهم الجماهيرية محدودة بالنسبة للطاقة الجماهيرية التي يتمتع بها النظام. وهذا يعني أن النظام الإيراني يتمتع بتأييد اجتماعي واسع، وفي هذا ما يساعد كثيرا على تحقيق الاستقرار الداخلي. وعلى الرغم من أن أمريكا وأعوانها العرب قد حاولوا خلخلة المجتمع الإيراني وصناعة الفتن الداخلية إلا أنهم خسروا في النهاية.
ثالثا: لا تستطيع أمريكا تحقيق حصار مطبق وعالمي على إيران لأن هناك دولا ذات إرادة ترفض الإجراءات الأمريكية.
روسيا والصين والهند إلى حد ما لا تقبل الإجراءات الأمريكية والعقوبات ومن غير المتوقع الالتزام بها. الصين هي أكبر مستورد للنفط الإيراني وموقفها لا ينسجم مع رغبة أمريكا بالتوقف عن استيراد النفط الإيراني. أمريكا لن تعوّض الصين أو الهند عن الخسائر المترتبة على التوقف عن استيراد النفط الإيراني. إيران هي الأقرب على الصين والهند وتكلفة شحن النفط أقل من تكلفة الشحن من أي مكان آخر. وهناك دول أخرى مثل تركيا والعراق مترددة في القبول بالطلبات الأمريكية. المعنى أن إيران لا تفتقر إلى المنافذ سواء من ناحية التصدير أو الاستيراد. وهناك محاولات الآن للتحرر من نير الدولار والمصارف التي تتحكم بها أمريكا. لم يتم إنجاز هذه المسألة بعد، لكن العديد من دول العالم مهتمة بالتحرر من الرقابة المالية والنقدية الأمريكية.
رابعا: تمتلك إيران قوة عسكرية رادعة، ولو كان أعداؤها واثقين من النصر لشتوا حربا عليها منذ زمن. من الوارد نشوب حرب، لكن أمريكا وأعوانها يدركون مخاطرها بالأخص أن القواعد العسكرية الأمريكية في مرمى الصواريخ الإيرانية، وهناك عشرات آلاف الجنود الأمريكيين يطوقون إيران بخاصة من الجهات العربية. تملك إيران قدرات عسكرية بحرية ضخمة، وكذلك صواريخ بحرية وأرض أرض، وأرض جو متطورة وتستطيع إلحاق خسائر كبيرة في الجانب الأمريكي. وتستطيع إيران خلق أزمة نفطية عالمية إذا ضربت المنشآت النفطية العربية في الخليج. ويكفي الإيرانيين أن يغرقوا سفينة حربية أمريكية واحدة ليتحرك الداخل الأمريكي ضد الحرب. أي أن بإمكان إيران أن تصنع أزمة نفطية فترتفع أسعار النفط بصورة حادة، وستحمل الدول أمريكا مسؤولية ذلك، وتستطيع خلق أزمة داخلية أمريكية متمثلة برفض الشعب الأمريكي بخوض حرب لا فائدة منها.
خامسا: الجدلية الإيرانية أقوى من الجدلية الأمريكية على الساحة الدولية. ديبلوماسيا وسياسيا، الموقف الإيراني مقبول عالميا أكثر من الموقف الأمريكي لأنه يلتزم باتفاقيات صادق عليها مجلس الأمن. الدول الأوروبية التي وقعت الاتفاق النووي مع إيران ملتزمة وتطالب الولايات المتحدة بالبقاء ضمن الاتفاق. هذه الدول الأوروبية لن تتمرد على الولايات المتحدة، لكنها ستبقى بعيدة عن إعلان تأييدها للسياسة الأمريكية ضد إيران.
نقطة الضعف الإيرانية
على الرغم من أن إيران تمتلك أوراق قوة، لكنها تبقى ضعيفة أمام الضغوط التي تمارسها أمريكا على دول العالم من أجل الالتحاق بالركب الأمريكي وتأييد عمل عسكري ضد إيران. والقوة العسكرية الأمريكية ساحقة أيضا. أمريكا تتمتع بقوة بحرية لا مثيل لها في العالم، وقدرات صاروخية وجوية مرعبة، وستكون قادرة على إلحاق خسائر كبيرة في الجانب الإيراني. الجانب الإيراني سيتضرر من العقوبات، ومن أي عمل عسكري تقوم به أمريكا.
وإيران تعاني من دعم أغلب دول الخليج لأمريكا، وهذه دول توفر لأمريكا القواعد العسكرية وتفتح أجواءها وبحارها للنشاطات العسكرية الأمريكية يشكل العرب نقطة ضعف إيرانية خطيرة جدا.
نقاط الضعف الأمريكية
هناك عدد من نقاط الضعف الأمريكية مع عدم إغفال نقاط القوة والتي تتلخص بالقدرات المالية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية. التالية هي أهم هذه النقاط:
أولا: الشعب الأمريكي ليس معنيا بحروب جديدة تخوضها دولتهم، ولا المشرعون الأمريكيون معنيون بخوض مغامرات عسكرية جديدة، ولا يوجد لديهم الاستعداد لتخصيص أموال للحروب. هذا إن قرر ترامب شن حرب على طهران بناء على نصائح بولتون. يدرك الشعب الأمريكي، كما المشرعون أن حروب أمريكا في المنطقة العربية الإسلامية باءت بالفشل، وأن أمريكا حصدت نتائج مغايرة للنتائج التي كانت تحاول إنجازها بالحرب. فشلت أمريكا في أفغانستان والعراق، وهي تفشل في سوريا واليمن. لقد انفقت أموالا طائلة على الحروب، وأُزهقت نفوس الأمريكيين بلا طائل. ربما لم تتعلم الحكومة الفيدرالية الدرس حتى الآن، لكن الشعب الأمريكي سئم الحروب ولم يعد لديه الاستعداد للتساوق مع حرب قد تكون أكثر عنفا ودموية من الحروب السابقة.
وإذا تمكنت إيران إيقاع خسائر معتبرة في الجانب الأمريكي مع بداية حرب يشنها ترامب فإنها ستختصر زمن الحرب بصورة حادة ذلك لأن الخسائر ستستفز الرأي العام الأمريكي الذي سيتحرك ضد الحرب. الأمريكيون هم الذين يدفعون الضرائب، وهم باتوا على يقين أن أطفالهم أولى بالأموال من شركات صناعة الأسلحة.
ثانيا: الجغرافيا والديمغرافيا الإيرانية تشكل رادعا لأمريكا ولا تشجعها على شن حرب. تبلغ مساحة إيران حوالي 1600000 كم2، وعدد سكانها يفوق السبعين مليون. أي أن إيران دولة ضخمة مساحة وسكانا، ومواقعها العسكرية منتشرة على اتساع الجغرافيا الإيرانية. احتاجت أمريكا لألفي طائرة مقاتلة وحارسة عند الهجوم على العراق، وهي بحاجة إلى أكثر من ضعف هذا العدد إذا قررت الهجوم على إيران.
فضلا عن أن أمريكا لا تستطيع القيام بإنزال بري وزحف باتجاه المدن الإيرانية. التواصل البري مع دول الخليج غير متوفر، والمنفذ شبه البري الوحيد هو من جهة الكويت.
ثالثا: الإيرانيون أذكياء وحسبوا حساب حروب يمكن أن تشنها عليهم الولايات المتحدة أو الكيان الصهيوني بالتعاون مع السعودية، ولهذا عملوا على إقامة مواقع عسكرية ونووية محصنة تحت الأرض لا تطالها أعتى القنابل والصواريخ الأمريكية. الأمريكيون ليسوا على ثقة بأنهم يعرفون المواقع العسكرية الحقيقية لأن الإيرانيين يحترفون التمويه والتضليل العسكري، وهم لا يعرفون تماما قدرات إيران العسكرية. نحن نرى مناورات إيرانية على شاشات التلفاز، لكن لا نعرف ما الذي يخفونه من أدوات قتالية متطورة. وهنا لا بد أن نشير إلى أن التحصين الأمني الإيراني قد قلل كثيرا من قدرات أمريكا والصهاينة الاستخبارية. هناك اختراقات أمنية في إيران، لكنها أقل بكثير من الاختراقات التي تميز الصفوف العربية.
الأمريكيون لا يعرفون بالضبط فيما إذا كانت ستسقط طائراتهم فوق إيران أم لا، ولا يملكون تقديرا جيدا لوقوع طياريهم بالأسر. نحن لم نشهد قدرات عسكرية جوية لإيران في سوريا، فهل هذا الغياب القتالي ينسحب على إيران أم لا؟ لا نعلم. المعنى أن أمريكا تخشى المفاجآت العسكرية التي لم تعد لها العدة.
رابعا: تستطيع إيران ضرب أصدقاء أمريكا فضلا عن القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة. أمريكا تحسب حساب الدمار الذي يمكن أن يلحق بالمؤسسات النفط ومصافي النفط في المنطقة، وتحسب لمضيق هرمز الذي يمكن أن يصبح غير آمن لناقلات النفط. هذا سيشكل فزعا على المستوى العالمي، وستضغط الدول على أمريكا لإيقاف أي هجوم عسكري يمكن أن تقوم به. كما أن أمريكا لن تتمكن من منع ناقلات النفط التي تنقل النفط الإيراني إلى العالم من الاستمرار في رحلتها لأنها تخشى قيام إيران بتعطيل النشاطات البحرية في مضيق هرمز. وإيران تستطيع إغلاق المضيق وليس فقط عرقلة الحركة التجارية لأنها تملك القدرات العسكرية التي تمكنها من ذلك.
خامسا: ضعف الموقف الدولي الأمريكي يشكل رادعا ديبلوماسيا لأمريكا. أمريكا لا تحظى بتأييد دول العالم فيما يتعلق بالاتفاق النووي، ولا تؤيد الدول حصار إيران. هذا ينطبق على الدول الأوروبية التي تقف دائما إلى جانب أمريكا. هذه المرة، لا تتوفر الظروف الموضوعية لوقوف أوروبا مع أمريكا، بل أن أوروبا تبحث عن مخارج لإبقاء علاقاتها مع طهران قائمة وتجنب العقوبات الأمريكية. العالم يبدو أنه سئم ترامب وخطواته الارتجالية الفوضوية. وإذا كان هناك من نصيرين لأمريكا فهم فقط صهاينة اليهود وصهاينة العرب. فهل ستستمر أمريكا بصلفها ووقاحتها إرضاء للصهاينة؟ هناك قوى في الداخل الأمريكي لا تقف على الرصيف مع المتفرجين.
ولهذا أرى أن العقوبات على إيران ستفشل بسبب صبر وتحمل الشعب الإيراني، واحتمال نشوب الحرب يبقى أضعف من احتمال عدم نشوبها.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/01/22