شكرا على قطع المعونات المالية الأمريكية
د. عبد الستار قاسم
يلاحظ المتجول حول العالم باحثا عن مفاعيل المساعدات المالية الأمريكية يكتشف أن نتائج هذه المساعدات لم تكن في صالح الذين يتلقونها. هو سيرى النتائج التالية:
الأموال الأمريكية وأموال مساعدات الدول الأخرى تشجع على الاعتماد على الآخرين، وتؤثر سلبا على نشاطات الدول الإنتاجية. أي أنها تسبب التراخي في العمل، والتراخي في الاعتماد على الذات، وتحقيق الاكتفاء الذاتي ولو بشكل محدود. إنها تقود إلى التكاسل والكسل، وتقليص الإبداع في الابتكار والبحث عن وسائل وأساليب التطوير الذاتي.
تبدأ المساعدات بريئة نوعا ما، لكنها تشكل مدخلا قويا للتدخل الأمريكي المتنامي بالشؤون الداخلية للدول. رويدا رويدا تدخل الولايات المتحدة إلى أصحاب صنع القرار في الدول وتؤثر عليهم، وغالبا تستقطب بعضهم للعمل في أجهزتها الأمنية، وتصبح البلاد كفا مفتوحا أمام المخابرات الأمريكية. وبعد عدة سنين، ستصبح الدولة في قبضة الولايات المتحدة الأمنية التي تستطيع تغيير نظام الحكم فيها في الوقت الذي تراه مناسبا.
وبعد فترة من الزمن يدخل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى المسرح الداخلي للدولة ليتدخلا في رسم السياسة الاقتصادية للدولة مثل تحديد مستوى الضرائب وأنواع السلع التي يجب أن ترفع الدولة معوناتها عنها، الخ.
ومن ثم تدخل الأموال إلى عالم السياسة فيستعملها الأمريكيون لتحديد سياسة الدولة على المستويين الإقليمي والعالمي وفق متطلبات المصالح الأمريكية. أي ان الدولة تجد نفسها في سياق المساعدات بلا إرادة سياسية، وأنها واقعة تحت الاستعمار الأمريكي لا محالة. فإما تطيع وتسير وفق الإرادة الأمريكية، أو تشهد القلاقل والمتاعب ومحاولات تغيير نظام الحكم.
لم تختلف مسيرة المساعدات المالية الأمريكية للسلطة الفلسطينية عن مسيرتها في مختلف دول العالم. فقط لم تكن المساعدات الأمريكية بريئة لأنها قد صُممت منذ البداية لأن تكون عونا للكيان الصهيوني على حساب الحقوق الوطنية الثابتة للشعب. ابتهج الناس في البداية لهذه المساعدات، وهللت لها السلطة وكبرت لأنها أقنعت الشعب بفوائد اتفاق أوسلو المالية والرواتب التي ترتبت عليه. لكن أغلب الناس لم ينتبهوا إلى أن أغلب المساعدات المالية الأمريكية كانت موجهة للأجهزة الأمنية الفلسطينية التي أنيط بها مهمات تجريد الفلسطينيين من الأسلحة وإهدار القدرات القتالية، والدفاع عن الأمن الصهيوني من شرور من يسمونهم الإرهابيين والذين هم أبناء الشعب الفلسطيني المجاهد. بالأموال الأمريكية أقيمت مقار للأجهزة الأمنية الفلسطينية، وشُحنت السيارات والأدوات المختلفة اللازمة للمطاردات الأمنية، وشيدت السجون لاعتقال الفلسطينيين، وصرفت الأموال إلى جيوب المتعاونين بخاصة من المسؤولين. وقد أنجزت السلطة الفلسطينية بهذه الأموال من الناحية الأمنية والعسكرية للكيان الصهيوني ما كان يعجز عنه الكيان ذاته. وقد كان الكيان الصهيوني سعيدا بهذه النتائج، وأيضا المنسق الأمني الأمريكي دايتون الذي زف للكونغريس الأمريكي بشرى قيام فلسطينيين بقتل عبد المجيد دودين في جبل الخليل بقيادة ضابط إسرائيلي.
وقد شكلت مؤسسة اليو أس إيد USAID مع القنصل الأمريكي في القدس مركز قوة كبير في الضفة الغربية سيطر في عدد من الأحيان على اتخاذ القرار.
ولهذا توجه الكيان الصهيوني إلى أمريكا عقب قطع أموالها عن السلطة الفلسطينية لكي تعيد ضخ هذه الأموال أو بعضها لأن الأجهزة الأمنية الفلسطينية لن تتمكن من القيام بواجباتها تجاه الأمن الصهيوني بدون تمويل. وتقديري أن أمريكا ستستجيب إما مباشرة أو من خلال بلدان عربية. المهم أنهم لن يتركوا الأجهزة الأمنية الفلسطينية عرضة للإفلاس. وإن لم تتم مراجعة هذه المسألة فإن السلطة الفلسطينية سترفع من نسبة الضرائب وستفرض المزيد من الرسوم والأتوات على المعاملات الرسمية الضرورية للحياة اليومية للشعب الفلسطيني.
وعليه فإن قطع الأموال الأمريكية يخدم الشعب الفلسطيني على الرغم من أنه لا يخدم الأجهزة الأمنية. وسيخدمه أيضا بالتالي:
غياب المساعدات المالية سيحفز الشعب الفلسطيني إلى تبني فكرة الاعتماد على الذات. أي ستدفعه إلى النشاط والعمل واستصلاح الأراضي وتشجيع المنتجين المحليين والتخلي تدريجيا عن السلع والبضائع المستوردة وملاحقة الفساد والفاسدين من أجل توفير الأموال للتنمية والاستصلاح الزراعي.
سيرتفع بعض الضغط عن المجاهدين الفلسطينيين، وسيجدون أن الضغط الفلسطيني قد انحسر وأن عليهم مواجهة الأجهزة الأمنية الصهيونية فقط.
سيرتفع الضغط المالي الأمريكي عن كاهلنا من حيث أننا نخشى القيام بأعمال تغضب أمريكا فتقطع عنا الأموال. هذه الخشية لن تكون موجودة عند قطع المال، وتتحرر رقابنا من نير هذه الأموال.
سنتحرر من تدخلات الآخرين مثل البنك الدولي بشؤوننا الداخلية، ومن المحتمل أن يقود ذلك إلى فتح الأبواب أمام الاقتصاديين لرسم السياسة الاقتصادية للأرض المحتلة/67.
وكلما قلّت الأموال ينخفض مستوى الفساد، وتصبح السلطة أقل قوة، وتهتز أركانها. وكلما ضعفت السلطة الفلسطينية اكتسب الشعب قوة في مواجهة الصهاينة.
المحذور الكبير الذي قد نواجهه، بل بالتأكيد سنواجهه، هو ألا تتبنى السلطى الفلسطينية استرتيجية البناء والإنتاج، وتلجأ إلى تعويض النقص بالأموال برفع الضرائب والرسوم على المعاملات الرسمية مبتزة بذلك حاجة الناس إلى إنجاز معاملاتهم. الفرصة أمامنا مواتية لتغيير ما نحن فيه بتبني سياسة الاعتماد على الذات إنتاجيا وليس ضريبيا، فهل ننجح؟ المؤسف نحن بصدد قيادات لا تفكر بالنشاط والعطاء والإنتاج.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/02/25