فشل مؤتمر وارسو لا يعني استسلام قوى الثورة المضادة
د. سعيد الشهابي
عندما كانت مصر عبد الناصر تقود العالم العربي رافعة شعار القومية العربية والنضال ضد الاستعمار، كانت الولايات المتحدة مرفوضة جملة وتفصيلا لدى الرأي العام العربي بسبب دعمها الكيان الإسرائيلي ووقوفها ضد حركات التحرر الوطني، ولم يكن للتحالف السعودي ـ الإيراني آنذاك تأثير واسع على ذلك. اليوم عندما أصبح التحالف السعودي ـ الإماراتي مهيمنا على العالم العربي سياسيا واقتصاديا وإعلاميا فتح الباب على مصراعيه للهيمنة السياسية والأمنية للتحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي. وبعد أن أثبت هذا التحالف قدرته على النيل من إرادة التغيير لدى الشعوب العربية بعد أن تصدت لثوراته قبل ثمانية أعوام، توسع نفوذ قوى الثورة المضادة، فلم تعد أمريكا أو الصهيونية «صديقة» فحسب بل هرع الكثيرون لخطب ود ذلك التحالف.
وفي العام الماضي تجاوز الوضع هذه الحدود، فأصبح هذا التحالف فاعلا في المشروع السياسي لذلك التحالف، وتصدرت السعودية المشهد لتحقيق أمور عديدة: أولها تغيير الأولويات العربية والقناعات الشعبية التي تبلورت على مدى سبعين عاما بضرورة تحرير فلسطين واعتبار الولايات المتحدة «عدوة» للتطلعات العربية والإسلامية، ثانيها: استثمار المليارات النفطية لتحييد أغلب الأنظمة العربية وتغيير مساراتها وتحالفاتها السياسية بعيدا عن مشروع التحرير والاستقلال. ثالثها: ممارسة دبلوماسية على الصعيد الدولي لشراء مواقف الدول القريبة مما يسمى «محور المقاومة» المناوئ للسياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية في الشرق الاوسط. رابعا: التصدي للمشروع السياسي الإسلامي وضرب حاضناته ورواده.
ضمن هذه المحددات يمكن اعتبار مؤتمر «وارسو» الأخير أول مشروع عملي على طريق صياغة شرق أوسط جديد وفق مقاييس قوى الثورة المضادة وأكثر انسجاما مع السياسات الأمريكية ـ الإسرائيلية. المؤتمر دعت إليه الولايات المتحدة وموله المحور السعودي ـ الإماراتي الذي فوضته واشنطن العام الماضي بإدارة ملف الشرق الأوسط وفق الاستراتيجية الأمريكية الذي عقد يومي 13 و 14 كان هدفه المعلن: «مناقشة الإرهاب والتطرف، وتطوير الصواريخ وانتشارها، والتجارة البحرية والأمن البحري، والتهديدات التي تطرحها الجماعات العميلة عبر المنطقة“. وفي مطلع فبراير، قال وزير خارجية الولايات المتحدة، مايك بومبيو، إن هدف المؤتمر هو التركيز على «تأثير إيران وإرهابها في المنطقة».
ومع ذلك، وبعد الاعتراض الأوروبي على هذا الغرض، اضطرت الولايات المتحدة إلى التراجع عن التخطيط لإقامة ائتلاف عالمي ضد إيران. وكان واضحا أن منظمي المؤتمر كانوا يأملون بحشد موقف دولي ضد إيران بشكل محدد، على أمل أن يؤدي ذلك لاضعاف «محور المقاومة» المدعوم إيرانيا. وقد أثبتت الوقائع لاحقا أن هذا الطرح كان من أهم اسباب فشل المؤتمر.
ومن معالم هذا الفشل ما يلي: أولا عدم حماس أغلب دول العالم لحضوره، فلم يشارك سوى خمسين دولة بتمثيل ضعيف في أغلبه، وقاطعته أغلب الدول الأوروبية بمن فيها المفوضية الأوروبية ووزيرة خارجيتها فريدريكا موجريني. ثانيا: بعد أنتهاء المؤتمر نأى العديد من الدول بأنفسهم عن هدفه الأساس وهو استهداف إيران بشكل مباشر.
ثالثا: بدت الخلافات بين الجهات الأساسية في المؤتمر في الظهور علنا، وكان أولى الخلافات ما حدث بين بولندا الدولة المضيفة للمؤتمر و «إسرائيل» التي كانت من مخططيه الاساسيين، على خلفية حوادث الحرب العالمية الثانية، بعد أن اتهمت السفيرة الإسرائيلية بولندا بالضلوع في اضطهاد اليهود.
كانت الولايات المتحدة مرفوضة جملة وتفصيلا لدى الرأي العام العربي بسبب دعمها الكيان الإسرائيلي ووقوفها ضد حركات التحرر الوطني
رابعا: أن المؤتمر لم يستقبل برفض شبه شامل من قبل الشعوب العربية فحسب، بل ربما ساهم في تحريك مشروع مناهضة التطبيع الذي مر بمرحلة جمود مقلق في السنوات الأخيرة نتيجة ضغوط قوى الثورة المضادة.
لقد كانت حماقة مخططي المؤتمر وداعميه من أهم عوامل فشله. فقد كان واضحا منذ اللحظات الأولى لإعلانه أنه يستهدف إيران بشكل مباشر واعتبارها «العدو الأول» وليس قوات الاحتلال الإسرائيلية، الأمر الذي لم يستسغه الكثيرون. هذا الاستهداف جاء من قبل جهتين لا تحظيان باحترام كبير في الأوساط الأوروبية والدولية، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. فقد كان خطابهما فاقعا واستعلائيا، يتجاهل قوى النفوذ التفليدية خصوصا أوروبا وروسيا والصين والهند. أغلب هذه الدول يتمتع بعلاقات متوازنة مع إيران، وساهم خمس منها (ومعها الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق باراك اوباما) في صياغة الاتفاق النووي مع إيران، وشعرت بخيبة أمل وغضب عندما أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من ذلك الاتفاق.
وبرغم فرض عقوبات صارمة على الجمهورية الإسلامية من قبل إدارته إلا أن أوروبا قامت بخطوة غير مسبوقة بإقرار آلية نقدية للتبادل التجاري مع إيران تتجاوز الحظر الأمريكي، الأمر الذي أغضب ترامب. وكان غضبه واضحا في تصريحاته المتكررة لاحقا. ويمكن القول أن مؤتمر وارسو يضاف إلى قائمة المبادرات الفاشلة التي طرحها ترامب منذ استلامه الرئاسة قبل عامين. فقد احدث استقطابا حادا في الكونغرس بسبب إصراره على بناء الجدار على الحدود مع المكسيك، وأحدث أزمة في العلاقات الدولية بانسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، ودخل في معركة لا تنتهي مع نشطاء حماية البيئة وحقوق الإنسان بانسحابه من اتفاقية باريس ومن مجلس حقوق الانسان. وحتى الآن لم تنجح محاولاته إنهاء المشروع النووي لكوريا الشمالية. وإعاد إلى العالم أجواء الحرب الباردة بإعلان عزمه على تفعيل نسخة جديدة من «مشروع الدفاع الاستراتيجي» الذي أصطلح على تسميته في الثمانينيات «حرب النجوم» في عهد رونالد ريغان. وكان من نتيجة ذلك إعلان الرئيس الروسي الأسبوع الماضي استعداده لاستخدام صواريخ نووية إذا ما أصرت أمريكا على تنصيب صواريخ استراتيجية في أوروبا.
مع ذلك لا بد من الاعتراف بأن العالم مهدد بالمزيد من النزاعات بسبب اختلال التوازن الاستراتيجي بين القوى التقليدية والعودة إلى سباق التسلح واستخدام لغة التهديد والقوة وتراجع لغة الدبلوماسية والاحترام المتبادل. ومن المؤكد أن خروج بريطانيا من أوروبا أضعف دورها الاستراتيجي وفسح المجال أمام قوى صغيرة أقل شأنا لممارسة أدوار لا تحسن اداءها. ففي الوقت الذي أصبح ترامب مدافعا شرسا عن «إسرائيل» تمارس بريطانيا دورا مشابها، وذلك بتصديها للدفاع عن السعودية بشكل غير لائق. فقد عبرت عن انزعاجها من القرار الإلماني بالتوقف عن تزويد السعودية بالسلاح وتجميد صفقة لبيعها 48 طائرة «تايفون» وشجعت على تخفيف حدة انتقادات السياسة السعودية. كما كانت من الدول الأوروبية القليلة التي حضرت مؤتمر وارسو ممثلة بوزير خارجيتها. ولا يبدو أن بريطانيا منزعجة من توسع الدور السياسي للتحالف السعودي- الإماراتي. فقد صمتت على اختراقه الحدود مع البحرين في منتصف آذار/مارس 2011، وما تزال تدرب أجهزة الأمن في السعودية والبحرين، وتعترض أية محاولة دولية لشجب أي منهما. وفي غياب المحاسبة الدولية لممارسات الرياض والمنامة بحق شعبيهما، حتى بعد مقتل خاشقجي وفتح ملفات التعذيب في البحرين خلال اعتقال الرياضي حكيم العريبي في تايلاند، وفي ظل استمرار سجن النشطاء الإماراتيين، تشجع التحالف لتوسيع دوره الدولي ضمن الاستراتيجية الأمريكية ـ الإسرائيلية.
هذا هو جوهر النشاط الدبلوماسي المحموم من واشنطن إلى تل أبيب، مرورا بوارسو فالرياض فابوظبي، وصولا إلى إسلام آباد ودلهي وبكين. حرب إرادات تاريخية ما تزال الشعوب العربية والإسلامية مغيبة عنها، فهل تستوعب هذه الشعوب فحوى هذا الصراع أم تبقى مخدرة تحت تأثير الدولار النفطي؟
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/02/25