هل ينجح البيت الأبيض في خنق أميركا اللاتينية؟
د. وفيق إبراهيم
ينشُرُ الأميركيون أكبر قدر ممكن من احتمالات حروب متنقلة تؤجّج العلاقات الدولية وتعكس أزمة الولايات المتحدة في هذه المرحلة بالذات.
وإذا كان الرؤساء الأميركيون السابقون من آل بوش وكلينتون وأوباما حاولوا استغلال انهيار الاتحاد السوفياتي لتجذير نفوذ بلادهم في آسيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا والشرق الأوسط وتوسيعها فإنّ الرئيس الحالي دونالد ترامب يحاول هندسة النفوذ الأميركي العالمي بالاستيلاء على ما هو مفيد اقتصادياً وتأمين الحدائق الخلفية ذات الجدوى الاقتصادية لبلاده.
واحدة من هذه المناطق هي أميركا اللاتينية الجنوبية التي تملك بلاده فيها هيمنة كبيرة توسّعت مع إعادة إمساكها بالبرازيل أكبر بلد في المنطقة.
يُذكر أنّ البرازيل ظلّت حتى العام الماضي مناوئة لواشنطن وعضواً في منظمة «بريكس» التي تجمعها بكلّ من روسيا والصين والهند على أساس التنافس الاقتصادي مع الأميركيين والأوروبيين واليابانيين.
إلا أنّ هذا التبدّل البرازيلي لم يحدث تراجعاً في خط استقلالي لاتيني يرمز إليه المجاهد الكبير سيمون بوليفار الذي حارب تسلط «الانسان الابيض» الغازي لأميركا الجنوبية.
هناك مجموعة من البلدان اللاتينية من هذا النوع ولا تزال ترفض الانصياع لواشنطن بينها فنزويلا وبوليفيا وكوبا والمسكيك والأوروغواي إلى جانب مجموعة وسطية أخرى.
للملاحظة فقط فإنّ الضغوط الأميركية على هذه البلدان اللاتينية لم تتوقف مرة واحدة. خصوصاً على مستوى المقاطعة والحصار الاقتصاديين، ففنزويلا مثلاً مساحتها مليون كيلومتر مربع ويصل سكانها إلى الثلاثين مليوناً وتمتلك 18 في المئة من الاحتياطي النفطي العالمي وثروات تعدينية هائلة بينها الذهب، هذا البلد الغني لا يبيع أكثر من مليون وثلاث مئة ألف برميل من النفط يومياً مقابل 4 مليون برميل لبلد بحجم الكويت.
وكانت فنزويلا تبيع مليوني برميل نفط في ستينات القرن الماضي.
هذه نتيجة الهندسة الأميركية التي تسمح بتقوية دولة ما وإضعاف أخرى حسب الحاجة إليها. هناك مثل آخر هو السعودية التي تقترب من حجم فنزويلا سكاناً ومساحة لكنها تبيع 12.3 مليون برميل يومياً أيّ أكثر من فنزويلا باثنتي عشر مرة.
أما لماذا الاستعجال الأميركي للجمع بين الضغط الاقتصادي ومحاولات إسقاط النظام الفنزويلي في هذه المرحلة فأسبابه موجودة في الشرق الأوسط وروسيا.
في هذه المناطق يتراجع النفوذ الأميركي بسرعة لافتة على الرغم من المحاولات الحثيثة التي بذلتها واشنطن في أوروبا الشرقية والبلقان لتطويق روسيا وعزلها.
يكفي أنّ موسكو اقتطعت ما تريده من الأهميات الاستراتيجية لأوكرانيا وتركت الباقي، هذا لا يعني تقهقر الامبراطورية الأميركية التي لا تزال تحتفظ بالسيطرة الأفعل والأوسع عالمياً.
هناك إذاً تحرّشات روسية وصينية بدأت تقتطع حصصاً من المارد الأميركي الذي يجد نفسه مضطراً للتنازل النسبي نتيجة لموازنات القوى المستجدّة في أقاليم كثيرة.
الصين أكلت حصة وازنة على المستوى الاقتصادي، وذلك بالاستفادة من رخص أسعار سلعها واتجاهها إلى جودة التصنيع وصعودها عسكرياً مع ابتعادها عن الفوضى في النزاعات الدولية والاكتفاء بمواقف عامة.
من جهتها اقتحمت روسيا الحرب السورية بقوّتها العسكرية وتمكنت بالتحالف مع الدولة السورية وإيران وحزب الله من ضرب أهمّ مشروع أميركي كان يريد من خلال تفتيت سورية إعادة هندسة منطقة الشرق الأوسط بكاملها على نحو يزيد من عمر الأحادية الأميركية قرناً كاملاً.
لكن هذا الهدف لم يطبّق وانعكس تراجعاً في دور واشنطن العراقي إلى جانب أفول الدور الإقليمي لحليفتها السعودية وصمود اليمن في جغرافيته الشمالية المنفتحة على البحر الأحمر المعروفة بدفاعها التاريخي عن كامل بلادها.
ماذا تعني هذه النتائج؟
لا يمكن تفسيرها إلا باضطرار واشنطن إلى إجراء تفاهمات مع المنتصرين لاستيعاب المستجدات واختار الأميركيون الروس على قاعدة إبعاد إيران على الرغم من أنّ لطهران أدواراً أكبر في العراق واليمن ولا تقلّ كثيراً عن الدور الروسي في سورية.
الأميركيون إذاً على مشارف الابتعاد النسبي عن الشرق الأوسط إنما في إطار تشبّثهم بشبه جزيرة العرب لأهميتها الاقتصادية.
واعتبروا أنّ تحصين امبراطوريتهم يجب ان يبدأ بوضع يدهم على أميركا اللاتينية انطلاقاً من فنزويلا إلى الاوروغواي مروراً بكوبا وبوليفيا والمكسيك، هذا ما أعلنه وزير الخارجية بومبيو مشدّداً على هذا المحور البوليفاري الذي يتعرّض لهجمات أميركية على المستويين السياسي والاقتصادي منذ القرن الماضي.
وكادت أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في ستينات القرن الماضي أن تشعل حرباً نووية لولا تراجع واشنطن عن تهديداتها ووعيدها.
لكن خنق أميركا اللاتينية يفترض أولاً إسقاط فنزويلا ورئيسها مادورو.
وهذا صعب لثلاثة أسباب:
صمود الجيش الفنزويلي الذي يقارب المئتي ألف عنصر وتأييده للدولة فلم يتمرّد حتى الآن إلا عشرات من الأنفار وصغار الضباط وهذه أعداد لا قيمة لها إلا على المستوى الدعائي فقط.
السبب الثاني تأييد معظم الفنزويليين لدولتهم في وجه التخطيط الأميركي وهذا واضح في تظاهرات مؤيدة لمادورو تتجاوز أحياناً المئة ألف مواطن مقابل بضع مئات يشكلون تظاهرات صغيرة مناصرة للرئيس السابق لمجلس النواب الذي عيّنه الأميركيون رئيساً لفنزويلا غوايدو.
لجهة السبب الثالث فهو الإصرار الروسي الصيني على حماية فنزويلا في حالة تعرّضها لغزو خارجي أميركي يتغطى بلبوس كولومبي برازيلي وربما لاتيني.
أميركا الجنوبية إلى أين؟ إنها في قلب صراع دولي ويتحدّد موقعها في ضوء العدوان الأميركي على فنزويلا ويبقى مادورو هو القوة الأساسية التي بوسعها وقف زحف واشنطن نحو التهام أميركا الجنوبية بكاملها وسط ضياع أوروبي يبحث دائماً عن الفتات خلف الامبراطورية الأميركية المتراجعة.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/02/26