الأزمة السورية في زمن «قسد» خسارة جديدة.. للأكراد
د.وفيق إبراهيم
المشاريع السياسية تصبح أحلاماً عندما تتجاوز الإمكانات بقدر كبير أو عندما تعتمد على إسناد من قوى كبرى تتخلى عن حلفائها عند تحقيق مصالحها حسب ما تفيد التجارب في التاريخ.
هذا ما يحدث مع «قوات سورية الديموقراطية» «قسد» الجناح العسكري لوحدات حماية الشعب الكردية، رمز حزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني في سورية.
فعند انفجار الأزمة السورية في 2011 اتخذ الأكراد في شمال سورية مناطق انتشارهم موقفاً محايداً بسبب الضغطين التركي والإرهابي، المجاورين لهم.. لكنهم وبسرعة خارقة أعلنوا بين اواخر 2012 وبداية 2013 إنشاء وحدات حماية الشعب الكردية المسلحة بشكل دقيق، مقسمين نفوذهم على ثلاث مناطق في الجزيرة والحسكة ـ الفرات.
لكن القوات التركية والمختبئة خلف ما يُسمّى تنظيمات تركمانية وجيش سوري حر، طردتهم من منطقة عفرين.
فبدا أن الأميركيين أمسكوا بقوات «قسد» منذ تأسيسها منتصف 2013، راسمين هندسة لنفوذ سياسي وعسكري في شرق سورية وشمالها، بين الأتراك في الشمال والشمال الغربي، وبين منطقة كردية في الجزيرة والحسكة تنتشر قربها وحدات أميركية وأوروبية، إلى جانب قوات كبيرة من داعش وتنظيمات أخرى تسيطر على معظم شرق الفرات حتى الحدود العراقية.
نظم الأميركيون علاقات هادئة بين هذه القوى واضعين قواعد دقيقة لمنع الاشتباك بينها. لأنهم شكلوا لها في تلك المرحلة، حاجات لمصالحها، يكفي أنهم كانوا يأكلون في تلك المرحلة من سيادة الدولة السورية مفبركين مساحات كبيرة خاصة بهم.. فهل من المصادفات النادرة في التاريخ أن لا يحدث اشتباك واحد له أهميته بين القوات الأميركية وداعش بين 2013 ـ 2018 على الرغم من التجاور الجغرافي.
وكذلك بين الأتراك وداعش أو بين الأكراد وداعش.. إلا على مستوى التهديد والتهويل وإطلاق النيران العشوائية.
بالمقابل اعتدت القوات الأميركية على الجيش العربي السوري مئات المرات، بذرائع الأخطاء التقنية.. لكنها اعتداءات كانت لدعم الإرهاب ومنع الجيش من القضاء عليه في شرق الفرات كما تبين آنفاً.. كما هاجم الأكراد مراكز الدولة السورية في القامشلي والحسكة بحجج واهية.
إن حاجة الأميركيين إلى كل هذه القوى في الشرق والشمال والغرب الشمالي، تتعلق بضرورة وجود آليات سورية أو من دول مجاورة أتراك إسرائيليون تلبي الإصرار الأميركي على تفتيت سورية، في إطار المشروع الكبير للشرق الأوسط الكبير.
هناك مستجدات فرضت على واشنطن تغيير سياساتها السورية، وهي على علاقة بنجاح الدولة السورية ببناء تحالفات استراتيجية مع إيران وحزب الله.. مقابل ستين دولة معادية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية و»إسرائيل» وتركيا والسعودية وقطر والأردن.. هذه جميعاً ساندت مئات آلاف الإرهابيين الذين كادوا لولا التحالف السوري مع حزب الله وإيران أن يسيطروا على كامل سورية.. هذا الحلف أنقذ الدائرة الأساسية للدولة مانعاً من إسقاط العاصمة دمشق ومتحالفاً مع روسيا، صاحبة المصلحة الاستراتيجية في دعم الدولة السورية، لوقف المشروع الأميركي في الشرق الأوسط.
لقد تمكن هذا الحلف من إلحاق أكبر هزيمة لم يحدث مثلها منذ الحرب العالمية الثانية بمئات آلاف الإرهابيين المدعومين دولياً وإقليمياً، محرراً بذلك نحو مئة وعشرين ألف كيلومتر مربع من مساحة سورية.
وعندما حاول الجيش السوري التقدم من ناحية دير الزور إلى مواقع الإرهاب شرق الفرات هاجمته طائرات أميركية بالتزامن مع قصف مدفعي كردي وإرهابي.. فهل هذه مصادفة أيضاً؟
هذا ما أرعب الأميركيين الذين استشعروا مسبقاً بخسارة المشروع وليس فقدان معركة.. معتبرين أن مرحلة تغيير آلياتهم الداخلية أصبح ضرورياً، فالإرهاب أصبح من دون قوة، بعد خسارته في كامل الغرب السوري، وتركيا لم تعد تدعم داعش بعد تبنّيها جبهة النصرة من سلالات «القاعدة»، وتنظيمات تركمانية وإرهابية أخرى، لذلك سقطت ورقة داعش عند الأميركيين واختاروا «قسد» بديلاً نموذجياً، لأسباب عدة أولها انتماؤها إلى الشمال السوري وإمكانية عقد تحالفات لها مع عشائر عربية في الشرق يتمول شيوخها من السعودية والإمارات، فكانت محاولة أميركية ضعيفة لإضفاء لمسات تعريب على «قسد» لم يصدقها أحد.
وهكذا ابتدأ فيلم أميركي طويل للقضاء على داعش، ببطولة مطلقة لـ»قسد».. والهدف منحها اعتمادية سياسية، ومدىً جغرافياً يسهم في تصديع فعلي لأهمية الدولة السورية التي تلتزم دائماً بالجمع بين تاريخ وموقع استراتيجي وديموغرافيا هامة.. ما يؤهلها دائماً لقيادة مشاريع الدفاع عن المنطقة.
استفاد إذاً الأميركيون و»قسد» من الانهيار الكامل للإرهاب في غرب سورية ومعظم العراق.. فقضوا عليه بدورهم في الشرق، لانتهاء وظيفته الأميركية من جهة وتأهيل الأدوار المقبلة لـ»قسد» من جهة ثانية، وذلك على مراحل عدة: الأولى هي المرحلة السورية وذلك بإعلان كانتون كردي، أما المراحل الأخرى فتبدأ عندما تباشر واشنطن بالتقسيم الفعلي للعراق.. فيكون عندها من واجب قسد التعاون مع أحزاب كردستان العراق لإنجاح مشروع الانفصال عن العراق. ولهذا المشروع تتماته بين أكراد كل من تركيا وإيران.
وبذلك يخطئ الأكراد مجدداً وبشكل استراتيجي قاتل، فهم يدفعون سورية والعراق وإيران وتركيا بالتحالف مع روسيا إلى تنسيق خطواتهم العسكرية للقضاء على مشروع قسد الأميركي، لذلك يبدو أن تركيا بدأت بهجوم واسع على أكرادها قرب الحدود مع إيران، فيما تستعد الدولة السورية وتحالفاتها للانتهاء من الخلاف مع تركيا حول موضوع محافظة إدلب، والانتقال إلى شرق الفرات.
للإشارة فقط فإن الأكراد الذين يشكلون عشرة في المئة من سكان سورية، هم أيضاً أقلية في شرق الفرات مقابل غالبية كبرى للسوريين العرب والسريان والآشوريين.
قسد إلى أين؟ تتجه إلى مزيد من الارتماء في الحضن الأميركي ـ الإسرائيلي، لاعتقادها بوجود فرصة ذهبية لدولة كردية سورية وإقليمية تريدها واشنطن و»إسرائيل» لتفتيت المنطقة.
وهذا وهم لأن هذه الموازنات لو كانت قوية فعلاً لما خسرت في سورية والعراق وأفغانستان..
ولذلك تقود قسد الأكراد إلى مشروع خسارة جديدة تضاف إلى مسلسل الحسابات الخاطئة لقيادات كردية لا تزال تمارس سياسة الاستقواء بالخارج لتحقيق أحلامها.
ولأن الأكراد في سورية هم سوريون، فإن الدولة المركزية في دمشق مستعدة، كما أعلنت دائماً للتعامل مع خصوصياتهم الثقافية والإدارية، على طريق تعامل أوروبا وأميركا مع الأقليات فيها، وهذا يجب أن يدفع التيارات الكردية الأخرى إلى منع «قسد» من دفع الكرد إلى خسائر تاريخية جديدة هم فقط ضحاياها.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/03/27