أمريكا وإيران وعقدة أربعين عاما
د. سعيد الشهابي
الحرب ليست خيار العقلاء في أغلب الحالات، فهي لا تبقي ولا تذر، ولا ينتصر فيها أحد. فالذين خاضوا الحرب العالمية الثانية دمروا العالم وحطموا بلدانهم، حتى الذين خرجوا منها «منتصرين». والجندي «المنتصر» يعود إلى بلده وتظل مشاهد الحرب والدمارالبشري والمادي تطارده بدون توقف، حتى أن بعضهم يلجأ للانتحار.
ولا يشذ عن هذه القاعدة من شنوا الحرب على القوات العراقية في الكويت في العام 1991 أو الذين حرضوا عليها. صحيح أن الكويت «تحررت» ولكن بأي ثمن؟ كان الإعلام الغربي يومها لا يتوقف عن وصف أنظمة دول الخليج خصوصا السعودية التي استدعت القوات الأجنبية، بأبشع الأوصاف ويضغط على حكوماته لإحداث تغييرات سياسية في أنظمة هذه الدول «غير الديمقراطية» متسائلا عن الحكمة من وراء إرسال الجنود الغربيين لحماية ما كان يسميها «أنظمة غير ديمقراطية». وربما النتيجة الأخطر التي نجمت عن تلك الحرب كانت الحضور الأمريكي العسكري والسياسي غير المسبوق في المنطقة، بعد أن كسرت أمريكا حاجز القلق بعد تجربتها وخسائرها في فيتنام. ولم تكن نتائج الحرب التي شنها التحالف الانكلو أمريكي على العراق في العام 2003 أقل ضررا على الأنظمة الخليجية التي حرضت عليها، فقد جاء تغيير النظام السياسي في العراق بغير ما يشتهون. ويكفي للتدليل على غياب الحكمة عن الذين يحرضون اليوم على حرب أمريكية ضد إيران ما يكرره الرئيس الأمريكي كثيرا من عبارات مهينة للنظام السعودي بشكل خاص: نريد منكم أن تدفعوا مئات المليارات، نحن الذين نحميكم فعليكم الدفع، لولا نحن لما بقيتم أسبوعا في الحكم. هذا الثمن الأخلاقي يوازيه ثمن مادي باهض يتمثل بهيمنة أمريكية كاملة على الأموال الخليجية. حتى ليبدو أن حكام الرياض أو الإنارات ليسوا سوى موظفين لدى البيت الأبيض، يستلمون الأوامر بين الحين والآخر لدفع المليارات، حتى اضطر بعضها للاستدانة أو بيع المستندات الحكومية.
هل ستكون نتيجة الحرب التي يحثون عليها ضد إيران مختلفة؟ في الأسابيع الأخيرة بدا العديد من الحقائق المزعجة التي يفترض أن يضعها المحرضون على الحرب في اعتبارهم.
الأولى أن التحريض في جوهره صهيوني، وأن نتنياهو ما برح يفعل ذلك مستعينا بالرياض وأبوظبي للضغط على الولايات الأمريكية لضرب إيران. الدوافع الإسرائيلية لذلك واضحة. فإيران لا تخفي دعمها لقوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ولا تخفي سياستها التي ترفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي. فالإسرائيليون لم يواجهوا طوال سبعين عاما من احتلال فلسطين ما واجهوه خلال الخمسة عشر عاما الاخيرة من شعور بالعجز في مقابل تلك المقاومة. ويعتقدون أن الصواريخ التي أصبحت تضرب مواقع في العمق الإسرائيلي مصدرها إيران، وبالتالي فما لم تضرب الجمهورية الإسلامية فسوف يستمر عجزهم عن هزيمة المجموعات المقاومة.
الحرب ليست خيار العقلاء في أغلب الحالات، فهي لا تبقي ولا تذر، ولا ينتصر فيها أحد. فالذين خاضوا الحرب العالمية الثانية دمروا العالم وحطموا بلدانهم، حتى الذين خرجوا منها «منتصرين»
الثانية: إن التحالف السعودي ـ الإماراتي الذي تورط في عدوانه على اليمن يعتقد أن الصواريخ التي يستخدمها اليمنيون لاستهداف مواقع استراتيجية في البلدين مصدرها إيران، برغم عدم قدرتها على اختراق الحصار الشامل على اليمن، البري والبحري والجوي.
وحدث تطور أخير في الشهور الأخيرة يتمثل باستخدام الطائرات المسيرة لضرب منشآت عسكرية ونفطية أحدثت اضطرابا في التوازن العسكري وكذلك في الأسواق النفطية. وبدلا من قيام هذا التحالف بوقف الحرب وحفظ ما تبقى من ماء الوجه، يعتقد قادته أن تحريض أمريكا لشن حرب على إيران سيوفر لهم فرصة أكبر لتحقيق «انتصار» عسكري على اليمن، الأمر الذي لن يتحقق بعد أن فشلوا في تحقيق ذلك على مدى أربعة أعوام من الحرب.
الثالثة: يعتقد التحالف الخماسي الذي يشكل «قوى الثورة المضادة» ويضم بالإضافة للسعودية والإمارات كلا من مصر والبحرين و «إسرائيل» أن ضرب إيران سيزيل أهم عقبة إقليمية لتوسع نفوذ دوله واحكام الهيمنة المطلقة على المنطقة وترويض الشعوب المطالبة بحقوقها السياسية وكسر شوكة التجسيد الابرز لمشروع «الإسلام السياسي». فهناك مصلحة مشتركة مع «إسرائيل» لاستهداف إيران من جهة والضرب بيد من حديد على من تسول له نفسه للمطالبة بالتغيير على غرار ثورات الربيع العربي.
الرابعة: أن إيران ليست في وضع ضعيف على صعيد السياسة الدولية، كما أن الموقف السياسي الأمريكي لا يتمتع بمصداقية واسعة في بلاده أو خارجها. فالعالم يعلم أن الرئيس الأمريكي هو الذي سحب بلاده من الاتفاق النووي برغم أنها وقعته مع خمس دول أخرى في العام 2015، وأن أوروبا ما تزال ملتزمة بالاتفاق وتلوم أمريكا على انسحابها.
وبالتالي فالتحريض ضد الجمهورية الإسلامية لن يحظى باجماع دولي، ولن تكون لدى الأمم المتحدة أرضية أخلاقية لإقرار أي عدوان عسكري عليها. كما أن هناك رفضا لذلك حتى من قبل بريطانيا التي أبدى مسؤولون عسكريون كبار من صفوف قواتها المسلحة اعتراضهم على الادعاءات الأمريكية أن إيران تهدد أمن منطقة الخليج. كما أن السعودية ليست في وضع سياسي أو أخلاقي متين خصوصا بعد اغتيال الإعلامي جمال خاشقجي بطريقة بشعة.
الخامسة: أن الساسة الإيرانيين ليسوا متهورين في مواقفهم، بل يتمتعون، كما هو معروف عنهم، بهدوء ونفس طويل وتحمل برغم خطابهم الثوري الذي يستفز البعض. وبرغم تهديداتهم بالانسحاب من الاتفاق النووي إذا لم تقم أوروبا بالتزاماتها بموجبه، إلا أنهم لا يريدون إلغاءه برغم اعتراض التوجهات الثورية عليه.
السادسة: أن دونالد ترامب، برغم عنجهيته وتهوره الظاهري، تاجر يتقن حسابات الربح والخسارة. فهو يبحث عن انجاز سياسي حقيقي يمنحه تفوقا على سلفه، باراك أوباما الذي خفف التوتر مع إيران وإعاد علاقات بلاده مع كوبا وأسس لتفاهمات مع روسيا والصين. ومن المؤكد أن مد الجسور مع إيران سيكون انجازا خارقا للعادة بعد أربعين عاما من القطيعة. ووفقا لما سربه الإيرانيون، فإن ترامب قام بثماني محاولات للتواصل مع الإيرانيين، ودعا الرئيس حسن روحاني إلى البيت الأبيض، ولكن كافة محاولاته استقبلت ببرود من الجانب الإيراني، الأمر الذي دفعه للتصعيد الإعلامي مع طهران. وقد أدرك مؤخرا أن هناك من بين فريقه السياسي من استغل الفرصة للتصعيد. وقد أدرك الرئيس الآن أنه استغلال غير مقبول لوضع متوتر. وثمة ما يؤكد توتر العلاقة مع جون بولتون، عضو مجلس الامن القومي الذي تجاوز الرئيس عندما أمر بإرسال حاملة الطائرات «ابراهام لنكولن» واربع طائرات بي 52 ومجموعة من صواريخ «باتريوت» التي تعترض الصواريخ قبل إصابتها أهدافها، إلى الخليج ودفع باتجاه الحرب بوتيرة متسارعة. وما أن استوعب ترامب ذلك بادر لاحتواء الموقف، كما كثف جهوده لفتح قنوات اتصال مع طهران عن طريق سويسرا. وقال يوم الخميس الماضي قبل لقائه مع الرئيس السويسري أولي ماورر الذي تلعب بلاده دور الوسيط الدبلوماسي بين البلدين، إنه يأمل ألا تكون الولايات المتحدة في طريقها لخوض حرب مع إيران. وعندما سُئل إن كانت هناك حرب بين البلدين قال ترامب للصحافيين لدى استقباله ماورر في البيت الأبيض «آمل ألا يحدث ذلك». وليس مستحيلا أن يتم استبعاد جون بولتون من مجلس الأمن القومي الأمريكي بسبب تصرفاته.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/05/20