في قلب التغيير من أجل غدٍ عربي أفضل: الجزائر والسودان تواجهان عسكر الثورة المضادة
طلال سلمان
تشير الصعوبة التي ترافق أية محاولة لتغيير الواقع السياسي، عبر إسقاط هذا النظام الفاسد أو ذاك، وبالثورة الشعبية المبرأة من أي تدخل خارجي، وأية مطامع وأغراض لأشخاص أو جهات أو حتى لأحزاب سياسية محلية، إلى أن “الثورة” قد أدرجت في قائمة المحرمات، وبالتالي بات يلتقي على محاربتها كل أصحاب السلطة ومعهم رجال المال والأعمال، ومن يساندهم من قوى التدخل الأجنبي (والإسرائيلي) وإن ظلت الواجهة عربية.
وما يشهده السودان، هذه الأيام، والجزائر، ولو بنسبة أقل، يدل انه بات للتدخل الأجنبي “وكلاء عرب”، يتولون نيابة عنه تكاليف الأعداد والتنفيذ من رشوة للضباط وتعهدات بمساندتهم في بناء البلاد وتعزيز قدراتها الخ..
ها هي الثورة الشعبية الرائعة في السودان تُذبح أمام العيون، ويتحول الجيش الذي كان سنداً للطاغية عمر البشير، إلى عدو مبين لجماهير الشعب السوداني الطيب والصادق والصابر طويلاً على “ظلم ذوي القربى”..
ولقد بادرت بعض دول النفط العربية إلى محاولة رشوة الثوار بذريعة دعم الاقتصاد الوطني في السودان بثلاثين من الفضة، ثم أكملت القمم العربية الثلاث شراء كبار بعض الضباط في الجيش السوداني، ممن احتلوا “تمثيل” السودان، المرابط شعبه في الشوارع والميادين بسلمية مطلقة ومن دون رغبة أو مظهر من مظاهر الميل للعنف، أو التقدم نحو المواقع العسكرية، وبالذات منها قيادة الجيش ورئاسة الأركان، بقصد التصادم معها أو إجلائها عن “مراكز سيطرتها”.
هكذا انقلبت القوى العسكرية من واجبها حماية الثكنات إلى مطاردة المعتصمين في الشوارع والميادين، بالرصاص الحي، بعد أن “تعبت” الهراوات والعصي من ضرب المليون متظاهر الذين يجوبون الشوارع في تظاهرات سلمية منذ شهرين أو يزيد.
سقط عشرات القتلى (أكثر من مائة) وجرح مئات من المتظاهرين الذين لم يرشقوا العسكر بوردة، وكانوا يكتفون بالمرابطة في الشوارع وقد رفعوا لافتات المناداة بسلمية الثورة تعبيراً عن إرادة التغيير.
ومن أسف فإن بعض الدول الأجنبية هي التي استنكرت أو احتجت، ولو بصوت خافت، بينما دول النفط أظهرت الابتهاج ووعدت الانقلابيين بمساندتهم بعد الدعم المفتوح.. بل لعلها أكملت بعد قمم مكة ما كانت قد باشرته قبلها من أسباب الرشوة لشراء الثورة بتشجيع الجيش على قمعها.
أمر العمليات واضح ومحدد: انتهى زمن الثورات، وأية محاولة للتغيير في أي بلد عربي سوف تتجاوز نظامه فتكشف سائر الأنظمة المعادية لطموحات الشعب، وإذا نجح تغيير النظام، أي نظام، وبالوسائل السلمية، خصوصاً، في هذه الدولة العربية فان المسلسل لن يتوقف عند حدود هذه الدولة أو تلك، لا سيما وأن الأنظمة القائمة تتشابه إلى حد التطابق، وهي تتساند ـ كل بحسب مقدراتها ـ، والأغنى يتحمل العبء الأكبر في ضرب التغيير فور مباشرته، ودائماً قبل اكتماله..
أما في الجزائر حيث الجيش أعظم خبرة فانه حريص، حتى هذه اللحظة، على ترك الجماهير تتظاهر فتملأ الشوارع داخل العاصمة كما في المدن الأخرى في مختلف أنحاء البلاد، فلقد أخلى الجيش قلب المدن مكتفيا بضرب طوق عليها من خارجها، لعله بهذا يستعيد بعض رصيده عند الجزائريين فلا يخسر الدنيا والآخرة.
وللجيش الجزائر تجربة مريرة مع الإسلاميين الذين واجههم وواجهوه، قبل عشرين سنة أو يزيد، فلحقت بالجزائر إضرار عظيمة، سواء في عمرانها أم في وحدة شعبها.. بل وحتى بسمعة الثورة الشعبية الرائعة التي أعادت إلى الجزائر هويتها الأصلية وأسقطت عنها عار “الفرنسة” التي حقرت هوية شعبها العربي وكلف إسقاطها والتحرر منها أكثر من مليون شهيد.
ويبدو أنه يتحاشى اقله حتى هذه اللحظة، التصادم مع هذه الغضبة الشعبية الرائعة التي حرصت على سلميتها، كما أن شبابها وصباياها يقومون بكنس الشوارع بعد انفضاض التظاهرة ليلاً، تمهيداً لأن يعودوا إليها في اليوم التالي، أو يوم الجمعة التالي، إذا أردوا أن يرتاحوا قليلاً في بيوتهم!
عملية تغيير الأنظمة العربية العتيقة والمتجذرة في دوائر السلطة، والتي “تخدم” الفقر والعوز ومهانة إذلال الشعب، باتت عملية شديدة التعقيد، بعدما عززت أنظمة الفساد قدراتها المخابراتية ووطدت علاقاتها بالخارج الأميركي “والداخل” العربي ممثلاً بدول النفط والغاز، التي وظفت رساميل محترمة في السودان بل أنها اشترت بعض المناطق والأراضي الزراعية الشاسعة.
كذلك فإن تركيا، التي تبعد آلاف الأميال عن السودان، قد أقدمت على شراء بعض الشاطئ على البحر الأحمر، لإنشاء قاعدة عسكرية مجهولة الوظيفة والغرض… اللهم إلا تعظيم مجد السلطان أردوغان.
ثم أن الأنظمة القائمة، ملكية وجمهورية، قد اتقنت لعبة الانقلاب من الداخل: قطر وتجربة شيخها تميم مع والده حمد بن خليفة، وهناك تجربة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع عمه الأمير مقرن (الذي كان، ذات يوم، ولي عهد الملك سلمان ثم خلع بهدوء.. وبعدها أقدم الأمير محمد بن سلمان على خلع ولي العهد الآخر، الأمير محمد بن نايف، وهو جاثٍ عند قدميه .. لطلب المعذرة..)
ثم أن الأمير محمد بن سلمان أقدم على سابقة مثيرة عندما داهم حرسه بيوت العديد من ابناء عمومته الأمراء، وكبار رجال الأعمال الأثرياء في المملكة، واحتجزهم في أفخم فندق في المملكة (فندق ريتز في الرياض) حتى تنازل من تنازل عن بعض ثروته وأمواله المنقولة والثابتة كشرط لاستمرار احتجازهم .. في بيوتهم!
بالمقابل شهد العراق ما يمكن تسميته “الانقلاب الأبيض”، فتم تكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة الجديدة وإزاحة رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي، الذي كان قد أزاح من قبل رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، وتمت العمليتان بهدوء ديمقراطي ملفت وجاء إلى السلطة ـ بعد الانتخابات ـ طاقم جديد بأكراده وعربه ـ وتمت إزاحة العهد السابق بعملية تشابه “سباق القمم” .. سلمياً ومن دون إسالة الدماء!
من جهة أخرى، وفي السياق نفسه، قامت جهات يشتبه بأنها تتبع إيران، مباشرة أو بواسطة أصدقائها من الجماعات المعارضة في اليمن للهيمنة السعودية والإماراتية ومشاركتهما في الحرب المدمرة والطاحنة على اليمن واليمنيين، بتفجيرات عدة داخل السعودية، وبالقرب من منابع النفط ومصفاته، وبعض القواعد العسكرية في دولة الإمارات (الشريكة في الحرب على اليمن وإبادة شعبه) … وكان منطقيا أن يوجه الاتهام إلى إيران من دون تسميتها في هذه اللحظة الحرجة.
إن الأوضاع العربية، عامة، مهترئة وعفنة.
إن الشعب العربي، في معظم أقطاره غائب، بل مُغيب، عن مركز القرار، الذي غالباً ما ينفرد به ملك أو رئيس-ملك مطلق الصلاحية تعاونه حكومة من الأتباع، ومن اجل استكمال الزينة يتم اعتماد مجلس نيابي أو مجلس وزاري من الصادقين في ولائهم الذين يعميهم إشراكهم في السلطة، ولو رمزياً وفي “مواقع شرفية” عن مصالح شعبهم وطموحه المشروع إلى غد أفضل.
إن العديد من الأنظمة القائمة في مختلف أنحاء الوطن العربي يعلوها الصدأ ويقعد بها العجز والاستمتاع بالسلطة عن خدمة مصالح شعبها وتأمين مستقبله وإدارة دولته بعيداً عن مناطق النفوذ وإملاء الولايات المتحدة، ومعها العدو الإسرائيلي..
بل لقد إسقطت معاني الخيانة والتبعية في هوة الارتهان للأقوى، ونرى رئيس وزراء العدو الإسرائيلي نتنياهو لا يتوقف عن التجول بين العواصم العربية حيث يستقبله الملوك والرؤساء وصولاً إلى السلطان قابوس البعيدة بلاده، سلطنة عمان، عن فلسطين المحتلة مسافة فلكية، والتي لن تفيده العلاقة مع الكيان الإسرائيلي إلا في مزيد من البعد عن مصالح بلاده خاصة والبلاد العربية ـ عموماً.
ولسنا نملك إلا الرجاء والتمني لمشروع ثورة التغيير في كل من الجزائر والسودان.. لان ذلك حق مشروع للشعبين العربيين فيهما..
والخوف، هذه المرة، ليس من العدو الإسرائيلي.. بل من الأشقاء العرب الذين متى انحرف حكامهم باتوا أخطر من هذا العدو الإسرائيلي.
صحيفة رأي اليوم وينشر بالتزامن مع الشروق
أضيف بتاريخ :2019/06/12