بين أميركا وإيران صراع الهيبة والسيادة سيطول ويتصاعد
د.عصام نعمان
أيّاً ما كانت الدوافع والملابسات، فإنّ إسقاط إيران طائرة التجسّس الأميركية المسيّرة والأكثر تطوّراً داخل أجوائها ومياهها الإقليمية يشكّل صفعة مدوّية لأميركا وانتصاراً باهراً لإيران.
أميركا ما زالت حائرة ومربكة ومنقسمة على نفسها. رئيسها ترامب، الأحمق أحياناً والمتقلّب دائماً، يدعوه البعض في بلاده الى اتخاذ موقف متشدّد من إيران مضمونه ردّ الصاع صاعين. البعض الآخر يدعوه إلى اتخاذ موقف رصين يحفظ ماء وجه أميركا وهيبتها من دون أن يتسبّب بحرب مع إيران تُغرق المنطقة برمّتها في حرب طويلة ومكلفة.
ترامب حائر بين الدعوتين. يشعر بأنّ عليه مراعاة موقف حلفائه في العالم، لا سيما الأوروبيين منهم، الذين يدعونه إلى الترصّن وعدم الإنزلاق إلى هاوية عنفٍ غير مبرّر وغير مجدٍ في هذه الآونة. كما يشعر بأنّ عليه أيضاً مراعاة «إسرائيل» وحلفائها العرب الجدد، أعداء إيران القدامى، الخائفين على أنفسهم ومصالحهم من الجمهورية الإسلامية وقوى المقاومة العربية التي تصطفّ معها في جبهة واحدة ضدّ أميركا و«إسرائيل».
غير أنّ أوّل وأهمّ مَن يتوجّب على ترامب مراعاته ووضع مصالحه في الحسبان هو ترامب نفسه، ترامب الذي رشّح نفسه، عشيةَ إسقاط طائرته التجسّسية، إلى ولاية رئاسية ثانية. فهل يُعقل أن يفوز مرةً أخرى وهو الذي تعهّد للشعب الأميركي، في غمرة المعركة الرئاسية قبل نحو أربع سنوات، بأنه سيكون حريصاً على عدم دفع أميركا إلى خوض أيّ حرب طويلة الأمد في العالم لأنّ التورّط في حربٍ مع إيران ستكون بالضرورة حرباً طويلة، مدمّرة ومكلفة؟
الأرجح أنّ ترامب سيكون حريصاً على إشعار الشعب الأميركي، كما العالم، بأنه لن يفرّط في الدفاع عن هيبة أميركا التي نالت منها إيران كثيراً بإسقاطها طائرة التجسّس الأكثر تطوّراً من جهة، ومن جهة أخرى تأكيد حرصه على عدم زجّ نفسه وبلاده في حربٍ مع إيران ستكون بالضرورة طويلة وذلك قبل أشهر معدودة من انتخابات رئاسية مفصلية. أجل، الأرجح أنّ ترامب سيحاول توجيه ضربة لإيران يبدو معها أنه لم يفرّط في «واجب» صون هيبة أميركا إنما من دون الانزلاق إلى حرب طويلة مع الجمهورية الإسلامية. كيف؟
تَردَّدَ في أوساط سياسية وديبلوماسية عربية وأممية أنّ ترامب قد يقوم بتوجيه ضربة محدودة ومؤذية لإيران مصحوبة بدعوة معجّلة التنفيذ إلى إجراء مفاوضات بين الدولتين لتسوية الخلافات المتفاقمة بينهما. كيف يمكن أن يكون ردّ إيران؟
إذا ما أخذنا ظاهر الحال في الاعتبار، فإنّ تصريحات مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي وغيره من القادة السياسيين والعسكريين تشير إلى أمرين لافتين: الأول، أنّ إيران لن تتردّد في الردّ على أيّ اعتداء عليها بقوّةٍ وعيارٍ متناسبين. الثاني، أنّ إيران لن توافق على إجراء مفاوضات مباشرة مع أميركا طالما انّ عدوان هذه الأخيرة يقع في غمرة انتهاك سيادتها على إقليمها البري والبحري والجوي.
ماذا عن المفاوضات غير المباشرة؟
ليس ثمة من يتبرّع بجوابٍ أو رأي حول هذا السؤال في طهران. لكن ثمة سؤالاً آخر: إذا ما وجدت طهران أن لا مناص من الردّ على أيّ ضربة أميركية محتملة، فهل أنّ ردّها سيكون على قواعد عسكرية أم على مصالح أميركية في المنطقة، وهل يشمل أو يتركّز على قواعد ومصالح لحلفاء أميركا الإقليميّين كـ «إسرائيل» أو السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين؟
ليس ثمة من جوابٍ حاسم. غير أنّ بعض المعلّقين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين المتابعين لوقائع الصراع الأميركي – الإيراني يعتقدون أنّ الأمر يتوقف على مكان انطلاق أدوات العدوان. فإذا كان مكان انطلاق الطائرة أو الصاروخ المعادِيَيْن قاعدة أميركية في دولة اقليمية، فإنّ إيران لن تتردّد في ضرب الدولة «المضيفة» للدولة المعتدية أو المسهّلة لانطلاق أدوات العدوان من أراضيها.
كلّ هذه الأمور مهمة وتستحق الاهتمام. لكن ثمة أموراً أخرى تبدو أكثر أهمية. إنها الدلالات التي يتوجّب استخلاصها من كلّ الذي جرى بغية تعزيز القدرة على توقّع أو حتى ترجيح ما يمكن أن يحدث.
لعلّ أولى الدلالات المستخلصة هذه القدرة السيبرانية التي تتمتع بها إيران وتمكّنها من استشعار طائرة التجسّس الأميركية المسيّرة والأكثر تطوراً ومتابعة مسارها الطويل في أجواء إيران ومياهها الاقليمية. ذلك يشير بل يؤكد امتلاكها رادارات وأجهزة استشعار بالغة الحساسية والدقة وعالية الكفاية التقانية وإلاّ لما أمكنها متابعة مسار طائرة التجسّس الأميركية وتحديد المكان المناسب لإسقاطها.
ثانية الدلالات امتلاك إيران صواريخ متنوّعة ومتطوّرة وفي مقدورها إسقاط طائرات وصواريخ معادية من طرازات متطوّرة جداً لا تملكها إلاّ دول كبرى، كالولايات المتحدة مثلاً، وأنّ من شأن ذلك الحدّ من سطوتها وتحكّمها بالدول الأخرى الأدنى تسليحاً والأضعف اقتصاداً والأقلّ قدرة.
ثالثة الدلالات تمتع القيادة الإيرانية بإرادة قوية للتقرير والمواجهة والحسم كما الحرص على الندّية رغم التفاوت في القدرات العسكرية والإقتصادية مع العدو الحقيقي أو المفترض.
رابعة الدلالات إدراك القيادة الإيرانية واقع موازين القوى الإقليمية والدولية وإتقان فنّ لعب بعض الدول ضدّ بعضها الآخر والاستفادة تالياً من التضارب والتناقض في ما بينها على نحوٍ يمكّنها من تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية وازنة.
خامسة الدلالات أنّ تراجع ترامب عن مهاجمة إيران شكّل هزيمة سياسية مدوّية للولايات المتحدة الأمر الذي يعزز تخوّفات الصقور والمتطرفين في واشنطن وتل أبيب من تسارع تطوير قدرات إيران التكنولوجية والسيبرانية والصاروخية ما يحملهم على التمسك بسياسة محاصرتها ومتابعة عملية إرهاقها بالعقوبات الاقتصادية وربما التفكير جدّياً بتوليف مخطط سياسي وعسكري لاحتوائها وحتى شنّ حرب عليها إذا اقتضى الأمر.
باختصار، أميركا سقطت في امتحان تعزيز الهيبة فيما نجحت إيران في امتحان حماية السيادة وصون الكرامة وممارسة الندّية في وجه كبرى دول العالم وأقواها وأكثرها شراسة.
… والصراع لا يزال مستمراً ومتصاعداً.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/06/24