«ورشة البحرين» قوّضت «صفقة القرن» وفرص السلام
د. سعيد الشهابي
لا يغيّر الواقع إلا الأبطال التاريخيون الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التغيير إلى ما هو أفضل للبشرية. هؤلاء يستمدون قوة موقفهم من قناعاتهم الشخصية وأيديولوجياتهم السياسية، ولا ينطلقون من الشعور غير الواقعي بالقوة المفرطة للمال أو السلاح فحسب. ومن سمات هؤلاء أنهم متواضعون عموما، وينأون بأنفسهم عن تمجيد الذات أو الغطرسة أو الشعور الزائف بالعظمة او القدرة على تجاوز سنن التاريخ. فالوضع الايديولوجي والسياسي في الشرق الأوسط لا يمكن أن تغيره القوة الأمريكية المفرطة أو الذي يملكه التحالف السعودي ـ الإماراتي أو الإمكانات الأمنية لدى الكيان الإسرائيلي. هذه المنطقة لا يمكن أن تغيرها الشركات الكبرى أو مجموعات الضغط الصهيونية أو شركات العلاقات العامة التي تروج للاستبداد والديكتاتورية. فهذه الوسائل تفترض القدرة على تجهيل الناس وتمرير المخططات وراء ظهورهم أو إسكاتهم بالمال أو الدعاية المزيفة أو التهديد بالسجن أو القتل. ما هكذا تغير أوضاع الشعوب أو التوازنات العسكرية والسياسية. وكل ما تنتجه الجهود المؤسسة على هذه الفرضيات المزيد من الفوضى والعنف والتأزيم وتمزيق البشرية وتعريضها للحزن والأسى والمصائب. هذا ما تنطوي عليه استراتيجية قوى الثورة المضادة المدعومة بالتحالف الانجلو- أمريكي. انه قادر على التدمير والتخريب ولكنه لا يبني أو يعمر. وقد يستطيع الاستمرار في استراتيجيته هذه في غياب البديل السياسي أو الشعبي، وحتى في هذه الحالة فانه يتآكل من داخله ويتلاشى تدريجيا.
من هذا المنظور الافتراضي يمكن القول أن الورشة الاقتصادية التي عقدت في البحرين الأسبوع الماضي قد فشلت تماما وأنها ربما ماتت قبل أن تولد. فحتى لو كان لها نصيب من النجاح فان سياسات البيت الأبيض وعملاءه وتل أبيب وبعض الحكام المأزومين قد ساهمت بشكل مباشر في إجهاضها، فعجلت بمخاضات مبكرة قبل أن يكتمل نمو الجنين. فمن الخطأ الفادح تجاهل امة كاملة وإلغاؤها من المعادلة السياسية والاقتصادية، وحصر التعاطي معها بالمال، وافتراض أن شرفاءها يمكن شراؤهم وبيعهم والمتاجرة بمواقفهم. هذا خطأ فادح ارتكبه مخططو البيت الأبيض وتل أبيب والرياض. ومن الخطأ كذلك أن يوكل تنفيذ المرحلة الأولى من هذه المهمة العسيرة إلى طرف ضعيف وعاجز ومرفوض من شعبه. أما الخطأ الآخر الذي لا يقل أهمية فيتمثل بتجاهل الأطراف المعنية بالأزمة التي هي جوهر ما سمّي «صفقة القرن» وتجاهلهم واستضعافهم والسعي لسحق إنسانيتهم وما تمليه من مشاعر تجاه الكرامة والشعور الوطني والانتماء الإيديولوجي والأخلاقي. فليس من قبيل المبالغة القول بان القرار الفلسطيني الجماعي برفض صفقة القرن ومقاطعة ورشة البحرين كان المسمار الأخير في نعش المشروع الذي اشتركت فيه قوى الثورة المضادة مع التحالف الانجلو ـ أمريكي. فقرار السلطة الفلسطينية بعدم الحضور، على لسان رئيسها محمود عباس في القمة العربية التي عقدت الشهر الماضي بمكة المكرمة، ثم قرار الأطراف الأخرى وفي مقدمتها منظمتا حماس والجهاد الإسلامي، افرغ الضجة الإعلامية من محتواها، فخرجت الاحتجاجات على السنة الرسميين والمناضلين وقوى التحرر الوطني والشعوب العربية في تظاهرات عديدة في زمن اعتقد الكثيرون خطأ أن الأمة قد انتهى دورها وان التحالفات الشريرة قضت على وجودها الفكري والميداني.
السلام المفروض بالقوة والإكراه والتضليل والإغراء خصوصاً من دونالد ترامب الذي لم يخف انحيازه الكامل للصهاينة، لا يتوافر على أسس النجاح، ولذلك لا يختلف مصيره كثيراً عن الحرب المفروضة التي تفقد أسباب النجاح وإن امتلكت المال والسلاح
مشكلة الطغاة أنهم يفقدون عقولهم تماما ويتصرفون خارج اطر المنطق البشري السوي. ففي الوقت الذي كانت قلوب الشعوب العربية والإسلامية تغلي بالغضب مما ارتكبه نظام الحكم في البحرين بتسهيله مهمة الورشة المذكورة التي اعتبرها الكثيرون «مؤامرة» استمر وزير خارجية البحرين في استفزازاته لتلك المشاعر، فأطلق تصريحه الذي أثار مشاعر الغضب والتقزز لدى الرأي العام العربي والإسلامي: إسرائيل باقية وعلينا دعم حقها في الوجود. وكان ظهوره على شاشات وسائل الإعلام الإسرائيلية التي سمح لها بدخول البحرين والبث من أراضيها وتحدي مواطنيها المضطهدين، واحداً من أسباب فشل الورشة. هذا في الوقت الذي يتنكر لحق الشعب البحريني في الوجود على أرضه، فقد سعت حكومته لاستبدال ذلك الشعب بالأجانب عبر مشروع للتجنيس السياسي، المستمد من فكرة «الترانسفير» الإسرائيلي، وسحب جنسيات المئات من المواطنين بذرائع واهية. الأمر المؤكد أن تصدر مشهد الاستسلام لسياسات البيت الأبيض من قبل أمثال هذا الوزير لا يخدم أهداف رعاة مشروع تصفية القضية الفلسطينية.
كما أن التصريحات التي أطلقها راعي الورشة، جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي، ساهمت هي الأخرى في إحداث حالة استقطاب حادة قطعت الطريق على فرص نجاحها، ووجه بها صفعات موجعة حتى لحلفائه. فحينما أعلن رسميا تخلي الولايات المتحدة عن «المبادرة العربية» التي تدعو لحل الدولتين فانه ضرب السعودية التي عرفت المبادرة باسمها عندما طرحها الأمير عبد الله بن عبد العزيز على قمة بيروت. وكانت المرجعية الأساسية لموقف الحكومات والجامعة العربية على مدى عقدين تقريبا، فإذا بصهر ترامب يلغيها جملة وتفصيلا ويرمي بها من على منبر الورشة التي دفعت دول الخليج تكاليفها. ويزيد الأمر إيلاما أن على هذه الدول أن تدفع المليارات للبديل الأمريكي لتلك المبادرة. ولا يمكن القول أن السعودية لم تكن تعرف الموقف الأمريكي الذي لم يكن جديدا أو مفاجئا.
برغم ذلك كان التحالف السعودي ـ الإماراتي مسايراً لتلك السياسة والأهداف، ولم يصدر عنه انتقاد واضح للبيت الأبيض. فلماذا هذا الموقف الذي يضغط على كرامة الأمة وكبريائها برغم رفضها المطلق لسياسات هذا التحالف. ربما يمكن تفسير ذلك برغبة التحالف في استمرار الدعم الانجلو ـ أمريكي للحرب على اليمن واستمراره في تزويد الرياض وأبوظبي بالأسلحة. وتجدر الإشارة لقرار المحكمة العليا البريطانية مؤخراً باعتبار ذلك «غير قانوني» وإعلان الحكومة البريطانية وقف إصدار رخص جديدة لتصدير الأسلحة للسعودية. كما أن الكونغرس أقر سحب الصلاحية التي منحها للرئيس بعد حوادث 11 سبتمبر/أيلول للقيام بأي عمل عسكري يعتبره ضروريا لحفظ المصالح الأمريكية أو الدفاع عن أمنها. كما يعتبر التحالف السعودي ـ الإماراتي أن مسايرة السياسة الأمريكية بهذه الطريقة ضرورة لضمان موقف التصعيد الأمريكي ضد إيران، ويراهن على احتمال جر واشنطن لحرب معها. وليس معروفا بعد تفسير ما يبدو من تغير طفيف طرأ على سياسة الإمارات في الأيام الأخيرة. ومنطلق هذا التساؤل تطوران: أولهما ما أوردته وكالة أنباء رويترز هذا الأسبوع بأن الإمارات خفضت عملياتها في اليمن وأنها مستمرة في ذلك الخفض.
إذا أُضيفت هذه التطورات لما تقدم عن إخفاقات الورشة الاقتصادية التي صاحبها حشد سياسي وإعلامي هائل لدفع مشروع التنازل للكيان الإسرائيلي اتضحت أمور عديدة: أولها أن صفقة القرن مشروع لن يكتب له النجاح لأنها مؤسسة على الظلم والاستكبار وتجاهل حقائق التاريخ، ثانيها: إن رعاة الصفقة أنفسهم بدأوا يشعرون أن نجاح مشروعهم مشكوك فيه بعد المعارضة الشديدة لها من الرأي العالم الدولي والإقليمي وخصوصا الفلسطيني. ثالثها: ان الصفقة بدون موافقة حقيقية من الفلسطينيين أصبحت فارغة، إذ لا يمكن فرضها بالقوة، وتؤكد عقود سبعة من الصراع فشل القوة في فرض المشروع الصهيوني. رابعا: إن ورشة البحرين قد تكون بداية نهاية تحالف قوى الثورة المضادة بعد الهبة العربية والإسلامية ضد المشروع الأمريكي والمقاطعة الفلسطينية وبداية الخلاف بين أعضاء التحالف. خامسا: إن السلام المفروض بالقوة والإكراه والتضليل والإغراء خصوصا من دونالد ترامب الذي لم يخف انحيازه الكامل للصهاينة، لا يتوافر على أسس النجاح، ولذلك لا يختلف مصيره كثيراً عن الحرب المفروضة التي تفقد أسباب النجاح وأن امتلكت المال والسلاح
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/07/01