حتّى يستجيب القدر لإرادة الحياة!
صبحي غندور
هل وصل العرب إلى قعر المنحدر بحيث لا يوجد أمامهم الآن أيّ خيار سوى التطلّع إلى الأعلى/الأفضل والسعي للوصول إليه؟! أمْ أنّ أزمات المنطقة ما زالت حبلى بما هو أسوأ وبمنحدر أعمق ممّا هم العرب عليه الآن؟! الحال هو فعلاً كما صاغه الشاعر التونسي “أبو القاسم الشابي” بقوله: (ومن لا يحبُّ صعودَ الجبالِ يعشْ أبدَ الدّهرِ بين الحُفَر). لكن كيف سيكون هناك مستقبلٌ أفضل للشعوب والأوطان، وللأمّة ككل، إذا كان العرب مستهلكين بأمورٍ تُفرّق ولا تجمع! وكيف بالله تستطيع أمّةٌ أن تنهض من كبوتها وممّا هي عليه من سوء حال إذا كان العديد من صانعي القرار والرأي والفكر والفقه فيها مستمرّين فيما يؤدّي إلى مزيدٍ من عوامل الانقسام والانحدار والانحطاط في أحوال الأوطان والمواطنين!؟.
هو انحطاط، وهو انحدارٌ حاصلٌ الآن، بعدما استباحت القوى الأجنبية (الدولية والإقليمية)، وبعض الأطراف العربية، استخدامَ التجييش الطائفي والمذهبي والإثني في حروبها، وفي صراعاتها المتعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقود الأربعة الماضية. وقد ساهم في ترسيخ هذا الواقع الانقسامي، اعتماد أسلوب العنف المسلّح في بعض الانتفاضات الشعبية وهيمنة حركات سياسية ذات شعارات دينية، مقابل ضعف الحركات السياسية ذات السمة الوطنية أو العربية التوحيدية. فالعرب الآن هم بلا قضيةٍ واحدة، وبلا قيادةٍ جامعة. والشعب الذي لا تجمعه قضية وطنية واحدة أو رؤية مستقبلية مشتركة للأمَّة، ولا يمتلك مرجعيةً قيادية واحدة، يتوه وينقسم ويعيش أسيرَ صراعاتِ الداخل التي تعزّز تدخّلَ الخارج.
ولا أعلم لِمَ تراود ذهني صورةٌ أتخيّل فيها معظم العرب وكأنّهم أشبه بمساجين في معتقل كبير، ومدراء السجن الأجانب يتركون للسجّانين المحلّيين “حرّية الحركة” في التعامل مع المسجونين في زنزاناتٍ متفاوتة الدرجة والخدمات .. وفي هذا “السجن الكبير”، يتصارع المعتقلون مع بعضهم البعض على مقدار المساحة المخصّصة لهم في كلّ زنزانة!.
هكذا هو حال الأمّة العربية اليوم وما فيها من انشدادٍ كبير إلى صراعاتٍ داخلية قائمة، وإلى مشاريع حروب إقليمية قاتمة، في ظلّ هيمنةٍ أجنبية على مصائر البلاد العربية واستغلالٍ إسرائيلي كبير لهذه الصراعات والحروب. وضحايا هذه الصراعات العربية ليسوا فقط من البشر والحجر في الأوطان، بل الكثير أيضاً من القيم والمفاهيم والأفكار والشعارات.
فالدين والطائفة والمذهب، كلّها تسمياتٌ أصبحت من الأسلحة الفتّاكة المستخدَمة في هذه الصراعات. كذلك العروبة والوطنية، فهما الآن أيضاً موضع تفكيكٍ وتفريغ من أيّ معنًى جامع أو توحيدي، في الوقت نفسه الذي يتمّ استخدامهما لصراعاتٍ أخرى!.
والحرّية والديمقراطية أصبحتا مطلبين يتناقضان الآن، فالنماذج الديمقراطية المعروضة، أو المفروضة، تقوم على قبولٍ بالوصاية الأجنبية على الأوطان من أجل الحصول على آلياتٍ ديمقراطية في الحكم!. أمّا العمل من أجل التحرّر من الاحتلال فقد أصبح جريمة تستوجب العقاب!. وفي هذا الزمن الرديء ضاع مفهوم “الشهادة”، حيث امتزج “القاتل” و”الإرهابي” مع “المقاوم” و”الثائر”، وتحوّل “الديكتاتور” إلى رمزٍ قيادي للأمّة!.
التشويه يحصل أيضاً للصراعات الحقيقية في الماضي والحاضر، وللأهداف المرجوّة في المستقبل، ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً من هو العدوّ ومن هو الصديق، وفي أيِّ قضيةٍ أو معركة، ولصالح من؟!. ومسكينٌ ذاك الذي يصدّق في أميركا والغرب أنَّ إسرائيل ستدعم بناء مجتمعاتٍ ديمقراطية مستقرّة في الشرق الأوسط، حتّى لو قامت جميع دول المنطقة بالتطبيع مع إسرائيل، إذ هل هناك من مصلحة إسرائيلية في إقامة دول منافسة لها تلغي خصوصيتها تجاه أميركا والغرب؟!.
إنّ الخروج من هذا “السجن العربي الكبير” يتطلّب أولاً كسر القيود الدامية للشعوب، وفكّ أسر الإرادة العربية من الهيمنة الخارجية، وتحرير العقول العربية من تسلّط الغرائز والموروثات الخاطئة. ورحم الله “أبو القاسم الشابي” حينما استبق في قصيدته المشهورة عن: “ولا بدّ للّيل أن ينجلي.. ولا بدّ للقيد أن ينكسر”، قوله: “إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة.. فلا بدّ أن يستجيب القدر”. فهنا تكون البداية، أي إرادة الحياة الحرّة الكريمة.
تعدّدت الأسباب، لكن النتيجة واحدة. نعم أنظمة الاستبداد والفساد مسؤولة عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن أليس الاستنجاد بالأجنبي لتغيير حكوماتٍ وأنظمة هو تكريس لمصالح القوى الخارجية على حساب وحدة الأوطان واستقلالية قراراتها وتكرارٌ لما حدث قبل قرنٍ من الزمن أيام “الثورة العربية الكبرى”؟!.
صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية العربية قد حطّمت حاجز الخوف لدى شعوب المنطقة، لكن ما جرى أيضاً في عدّة بلدان عربية هو محاولات كسر وتحطيم مقوّمات الوحدة الوطنية وتسهيل سقوط الكيانات، كما سقطت أنظمة وحكومات، إذ لم تميّز بعض قوى المعارضات العربية (عن قصدٍ منها أو عن غير قصد) بين مشروعية تغيير الأنظمة وبين محرّمات تفكيك الأوطان ووحدة شعوبها. وهذه المخاطر موجودةٌ في كلّ المجتمعات العربية، سواءٌ أكانت منتفضةً الآن أمْ مستقرّةً إلى حين!.
الأمَّة العربية تخرج من هذه العشرية الثانية للقرن الجديد وهي مثقلة بالجراح، وبالدّم النازف بين شعوبها، وبالمخاطر الجمّة التي تحدق بمصير العديد من أوطانها، ولا تجد أمامها بوارق أمل بل قلقاً كبيراً من المستقبل القريب وتداعيات الحاضر. فكيف سيكون مستقبل العرب في العام 2020 وبداية العقد الثالث؟ وهل هناك مراجعات تحدث في الأوطان العربية لأوضاعها ولوقف اندفاع السلبيات في مساراتها المتعدّدة؟!
إنَّ الأمّة العربية الآن هي أمام الخيار بين تكامل الوطنيات العربية القائمة – وفق صيغة الاتّحاد الأوروبي بالحدِّ الأدنى – أو الانحدار أكثر في اقتسامٍ دولي جديد لها وتفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ متصارعة فيما بينها ومتفّق كل منها مع إسرائيل!. فلا مستقبلَ مثمراً للصيغة الراهنة للعلاقات العربية الحالية في ظلِّ ما هو قائم من مشاريع وتحدّيات دولية وإقليمية وإسرائيلية، وتحت وطأة اهتراء الأوضاع الداخلية العربية في أكثر من مجال سياسي واقتصادي واجتماعي، وصراعات عربية وعنف داخلي يستبيح العنف المسلّح بين المواطنين أو ضدّهم! .
***
هناك الآن حاجةٌ قصوى لوقفةٍ مع النفس العربيّة قبل فوات الأوان، وهناك حاجة إلى فكر عربي جامع يتجاوز الإقليميّة والطائفيّة والمذهبيّة، ويقوم على الديمقراطيّة ونبذ العنف واعتماد مرجعيّة الناس ومصالحها في إقرار النصوص والدساتير والقوانين…
هناك حاجةٌ ملحّة للفرز بين “الديمقراطيين العرب” لمعرفة من يعمل من أجل الحفاظ على النّسيج الوطني الواحد، ومن يعمل من أجل كانتونات فيدراليّة تحقّق مصالح فئوية مؤقتة…
هناك ضرورةٌ عربيّة وإسلاميّة للتمييز بين من “يُجاهد” فعلاً، في المكان الصحيح، وبالأسلوب السليم، ضدّ الاحتلال وأهدافه، وبين إرهابي يخدم سياسياً المحتلّ وأيضاً مشاريع الحروب الأهليّة العربيّة…
هناك حاجةٌ لتثبيت معنى “الهُوية” والذي يجمع بين الفهم السليم للأمّة العربية الواحدة القائمة على خصوصيات متنوّعة، وبين الولاء للوطن الواحد القائم على أسس سليمة في الحكم والمواطنة…
قبل قرنٍ من الزمن، عاشت البلاد العربية حالةً مماثلة من التحدّيات ومن مواجهة المنعطفات الحاسمة، لكن قياداتها لم تُحسن آنذاك الخيارات، فدفعت شعوب المنطقة كلّها الثمن الباهظ. عسى ألا تتكرّر الآن مآساة الأمّة العربية بعد مائة عام بالسقوط في هاويةٍ جغرافية جديدة، يتمّ فيها رسم الحدود بالدّم الأحمر للشعوب، لا فقط بالحبر الأسود!.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/07/05