السياسات العربية من الوحدة إلى التمزيق
د.سعيد الشهابي
القضايا الكبرى يجب ان تحسم في وقتها بدون تأخر، والا كانت نتائج الاختلاف بشأنها كبيرة، وعادة ما تدفع الشعوب اثمانا باهظة لذلك. فالحرب التي لا تحسم بسرعة تكلف من بدأها خسائر باهظة ربما لم تكن في حسبانه عندما اشعلها. والثورة التي لا تتواصل بالوتيرة التي انطلقت بها كثيرا ما تصل الى طريق مسدود خصوصا اذا قبلت بالتفاوض مع النظام الذي تهدف لاقتلاعه.
ويمكن القول ان واحدة من عوامل عدم الحسم غياب القيادة الشجاعة الصامدة التي لا تهتز تحت الضغوط ولديها اهداف واضحة وبصيرة نافذة. وما اكثر الوقائع للتدليل على هذه الدعاوى. فمثلا الحرب التي شنها التحالف السعودي الاماراتي على اليمن لم تصل الى النتيجة التي كان يتوخاها مخططوها لأنهم أخطأوا التقدير ولم يستطيعوا تحقيق النصر الحاسم في غضون الاسابيع القليلة وفق خطتهم. فبعد اكثر من اربعة اعوام ما تزال رحاها تدور وتحصد الاخضر واليابس، وما يزال التحالف المذكور غير قادر على تحقيق النصر الذي كان يتوقع تحقيقه في غضون اسابيع بعد 26 آذار/مارس 2015 عندما اطلقت شرارة الحرب. بل ان المشكلة انتقلت الآن الى صفوف التحالف نفسه، واصبح الخلاف بين الرياض وابوظبي ماثلا للعيان، خصوصا بعد ما حدث مؤخرا في عدن واستيلاء الجنوبيين على مفاصل السلطة هناك وعزل حكومة عبد ربه هادي منصور التي انطلقت الحرب بعنوان الدفاع عن شرعيتها. وكذلك الامر مع الثورة في السودان. اذ يفترض ان الثورة لا تتحاور مع النظام الذي تستهدفه الا بهدف واحد: الاتفاق على تسليم السلطة كاملة بدون شروط للثورة ورموزها. وما ان قبل مجلس التغيير السوداني بقبول مبادرة الاتحاد الافريقي للجلوس مع مائدة الحوار مع العسكريين في اثيوبيا حتى بدأ تراجع الثورة واصبحت مادة للمساومات، وتوفرت للنظام فرصة التقاط الانفاس والتخطيط لاجهاض الثورة باساليبه المستمدة من تجارب الآخرين. يفترض ان لا تنطلق اية ثورة الا بعد ان تتضح اهدافها في اذهان مخططيها، مع توقع فواتير باهظة وخسائر غير قليلة، بشرية ومادية. وما ان تطرف عين الثوار قبولا بمبدأ التفاوض مع النظام القائم، حتى تبدأ الثورة بالتراجع. والمعروف ان الانظمة السياسية المحاصرة بثورات شعوبها تضع على رأس اولوياتها المطالبة بوقف الحراك الشعبي كشرط للتفاوض. القادة الثوريون لا يرضون بذلك عادة لان فيه سلبا للارادة الشعبية لمواصلة درب الثورة وعدم التراجع او المساومة على اهدافها. ولا بد من الاشارة الى المشروع السعودي الاماراتي الموازي. هذا المشروع يتلخص بتصفية اجواء مجلس التعاون من اية دولة تسعى للخروج على القرار السعودي الاماراتي. وجاء استهداف دولة قطر تعبيرا عن غضب وانتقام بعد ان اتضحت استحالة حسم الحرب على اليمن. وقيل وقتها ان التحالف سوف يحسم صراعه مع قطر في غضون اسابيع لأن لديه من الاموال والنفوذ السياسي على الصعيدين العربي والدولي ما يجعله قادرا على تحقيق ذلك. ولكن الواضح ان ثلاثة اعوام على حصار قطر لم تؤثر على التوازن السياسي والاستراتيجي في المنطقة، بل اصبحت الدوحة رقما صعبا في معادلات مجلس التعاون الخليجي، فلديها علاقات متينة مع كل من تركيا وايران، وقد استطاعت تجاوز التحديات الكبرى التي طرحها العدوان ومنها التجويع من خلال الحصار المطبق برا وبحرا وجوا، ومنع الطيران من التحليق في المجالات الجوية لدى هذه الدول، ومنها كذلك توجيه اتهامات متواصلة لدولة قطر بدعم الارهاب، وهو امر اكثر انطباقا على السعودية والبحرين التي اكدت تسجيلات موثقة نشرت مؤخرا تعاونها مع عناصر من تنظيم «القاعدة» لتقوم باغتيال معارضيها.
أصبحت الحرب في اليمن عنوانا لفشل سياسي وعسكري وانساني اعتبرت السعودية والامارات مسؤولة عنه بشكل مباشر
الحرب التي شنها التحالف السعودي اليمني بدأت في ظاهرها واعدة بحسم المشكلة في غضون اسابيع، ان لم يكن اياما. وما ابعد هذه الحسابات عن الواقع، حسب ما هو متوفر الآن من معلومات حول مآلاتها ونتائجها حتى الآن. فقد وصل الصراع العسكري الى ذروته قبل عامين واصبح الآن ينحدر تدريجيا. وبدأ اليمنيون يستعيدون المبادرة ويضربون اهدافا سعودية واماراتية مهمة بدقة متناهية. وثمة تطورات سلبية طرأت على مسار الحرب، واصابت مصداقية دول التحالف في مقتل، واوضحت الاهداف الحقيقية للحرب. فهي لم تكن من اجل حماية اليمن من «الحوثيين» او وقف «النفوذ الايراني»، بل من اجل عدد من الاهداف منها ما يلي:
اولها :الهيمنة على اليمن الذي يحتل موقعا استراتيجيا لا يوازيه موقع آخر. فمن الناحية الاستراتيجية يمتلك اليمن موقعا يجعله قادرا على التحكم بالملاحة الدولية في البحر الاحمر من خلال التحكم بمضيق باب المندب.
ثانيها: تقسيم اليمن لتسهيل احتلاله او الهيمنة عليه.
الامارات تسعى لفصل الجنوب لكي يسهل سيطرتها عليه خصوصا ميناء عدن الاستراتيجي. ولذلك تحالفت مع الحراك الجنوبي الذي اعلن بوضوح رغبته في الانفصال عن الشمال وانهاء وحدة الشطرين التي تحققت عام 1990 في عهد علي عبد الله صالح. وفي الاسبوع الماضي سيطر الجنوبيون على المقرات المفترضة لحكومة هادي المعزولة في الرياض، وهي خطوة لتثبيت مبدأ الانفصال، ونظمت مظاهرات كبيرة لـ «تأييد» الانفصال. اما السعودية فخطتها تهدف لتقسيم اليمن الى ستة اقاليم، احدها يمتد من الشمال الى الوسط وليس له منافذ بحرية، ويترك للحوثيين. ويرفض اغلب اليمنيين مبدأ التقسيم بشكل قاطع. اليوم تطالب الامارات السعودية باستبعاد حزب الاصلاح من التحالف وكذلك العناصر الشمالية. هذا يعني ان الحرب ساهمت في تقوية الجنوبيين ذوي النزعة الانفصالية حتى اصبحوا يملون شروطهم على داعميهم، الامر الذي عمق القلق لدى الاماراتيين الذين كانوا يعتقدون ان بامكانهم الهيمنة على الجنوب. الامر المؤكد ان الامارات تواجه مقاومة شديدة من الجنوبيين الرافضين للخضوع للاملاءات الاماراتية او القبول بتحويل الجنوب الى قطاع تابع للامارات.
ثالثها: اعتبرت الحرب على اليمن ميدانا لاختبار قوة التحالف السعودي الاماراتي عسكريا وسياسيا. في البداية استطاع التحالف جر عدد من الدول للمشاركة في الحرب، ولكن اغلبها انسحب منه بعد ان اتضح فشل الحرب وعدم وضوح اهدافها وعدم شفافية السعودية والامارات في ما يرمون اليه. كان من بين المشاركين في الحرب المغرب وباكستان ومصر، وماليزيا ولكن لم يبق من هؤلاء احد سوى جنود سودانيين يتوقع سحبهم اذا انتصرت ثورة الشعب السوادني واقصت العسكريين المدعومين من الامارات. وقد تحولت الحرب بعد اربعة اعوام الى معارك استنزاف مؤذية لطرفيها. وتسعى الدول الغربية الداعمة للغرب خصوصا امريكا وبريطانيا للنأي عنها تدريجيا بعد ان اتضحت عبثيتها واستحالة حسمها عسكريا. يضاف الى ذلك ان تطور اداء القوات اليمنية واستهدافها المنشآت الحيوية في العمق السعودي بشكل خاص وقدرتها على قصف مواقع في الامارات اضفى بعدا آخر للازمة، وزادها تعقيدا. ويوما بعد آخر تزداد عزلة التحالف السعودي الاماراتي خصوصا مع تعمق الوعي الدولي بانها حرب جائرة لا تحظى بشرعية دولية ولا مجال لحسمها عسكريا، وان جرائم حرب واسعة ارتكبت فيها، وانها ادت لحدوث مجاعة وواحدة من اكبر كوارث القرن الحالي.
رابعها: انها ساهمت باضعاف مجلس التعاون الخليجي بشكل كبير. ففيما عدا البحرين لم تشارك فيها اي من الكويت او قطر او عمان، الامر الذي اظهر ضعف المجلس وغياب التوافق او الاجماع الذي طالما ميز قراراته ومواقفه. ولم يقتصر الامر عند هذا الحد بل اصبحت الحرب سببا لتعمق الخلافات بين السعودية وجيرانها، فكلما تعمقت الهزيمة ازدادت السعودية والامارات غضبا ضد الدول الثلاث التي لم تشارك. كما ادت سياسة الانتقام السياسي لتعمق الازمة بين دول المجلس. فاستهداف دولة قطر في ذروة الحرب لم يكن قرارا حكيما، لأنه اضعف تماسك دول المجلس، وكشف ضعف النفوذ السعودي الاقليمي، واحدث حالة استقطاب غير مسبوقة داخل المجلس. ولم تساهم سياسات محمد بن زايد او محمد بن راشد في تقليل المخاوف لدى الاطراف الدولية، بل زاد القلق ازاء المشروع الديمقراطي في المنطقة وحقوق الانسان، والقى بظلال من الشك على طبيعة التحالفات الاقليمية ومدى قدرتها على الاستمرار في ظل الاستقطاب الفكري والسياسي. ويوما بعد آخر اصبحت الحرب عنوانا لفشل سياسي وعسكري وانساني اعتبرت السعودية والامارات مسؤولة عنه بشكل مباشر.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/08/19