دروس سودانية
محمد سيد رصاص
بين الإطاحة بحكم عمر البشير (11إبريل/ نيسان 2019) والتوقيع النهائي على وثيقتَي «الإعلان الدستوري» و«الاتفاق السياسي» في17 أغسطس/ آب، قام السودانيون بتدشين تجربة غير مسبوقة عند العرب. في هذه التجربة السودانية لم يستطع العسكر الانفراد بالحكم رغم محاولتهم هزيمة وسحق الحراك المدني في مجزرة 3 يونيو/ حزيران التي استهدفت فضّ الاعتصام أمام مقرّ قيادة القوات المسلحة، ورغم الدعم الإقليمي من دول الخليج ومصر ومن ورائهما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي الذي ظهر خلال شهور نيسان، أيار، حزيران 2019 للانفراد العسكري السوداني بالحكم على غرار تجربة عبد الفتاح السيسي. في تجربتَين عربيتين سابقتين، في مصر 23 يوليو/
تموز 1952 - أزمة مارس/ آذار 1954، وفي الجزائر بعد السماح بالحرية الحزبية في سبتمبر/ أيلول 1989 وحتى انقلاب 11 يناير 1992 الذي أطاح بالمسار الانتخابي البرلماني، استطاع العسكر الانفراد بالحكم وهزيمة الأحزاب التي أرادت المسار المدني للحكم. طبعاً، يجب أن تُضاف للتجربتَين المذكورتين تجربة مصر منذ يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011 وحتى الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي في 3 يوليو/ تموز 2013، والذي مثّل انتصاراً لحكم العسكر على مسار سياسيّ مدني انتخابي رغم أن هناك قوى حزبية ساندت ذلك الانقلاب قبل أن يقوم السيسي بإرسالها إلى غياهب النسيان.
على ما يبدو هناك خصائص سودانية: قوى حزبية، لم يستطع عمر البشير خلال ثلاثين عاماً أن يمحوها من الوجود، تضافرت مع قوى مهنية (أكاديميون، محامون، قضاة، أطباء... إلخ) ومع قوى طلّابية ونسائية، لكي تقود ثورة سلمية تجاوزت المئة يوم، أجبرت العسكر على الإطاحة بالبشير في انقلاب عسكري. في مجتمعات عربية أخرى قام الحكم العسكري بمسح طاولة المجتمع بما كان عليها من أحزاب ونقابات ومنظمات مهنية، وقام بتطويع المنظمات الطلابية والنسائية. من اللافت أن ثلاث تجارب للحكم العسكري السوداني مع ابراهيم عبود (1958-1964) وجعفر النميري (1969-1985) وعمر البشير (1989-2019) لم تنجح فيما نجح به أقرانهم العرب. من المثير للانتباه أن الثلاثة قد أُطيح بهم بفعل حراك جماهيري سوداني، أجبر العسكريون على التنحّي عام 1964 لصالح حكم مدني، وأجبرهم على انقلاب عسكري ضد النميري وليقودوا بعده المرحلة الانتقالية قبل تسليمه لحكم مدني برلماني بعد عام من الزمن، ثم كان اعتصام 6 إبريل/ نيسان 2019 أمام مقرّ قيادة القوات المسلحة الذي دفع العسكر إلى انقلاب11 إبريل/ نيسان. هناك من يعزو قوة الأحزاب السودانية إلى استناد بعضها إلى بنى طائفية، مثل حزب الأمة عند طائفة الأنصار والحزب الوطني الاتحادي عند طائفة الختمية، من دون تفسير لقوة الأحزاب المتجاوزة للبُنى التقليدية السودانية التي برزت قوتها عام 2019 مثل الحزب الشيوعي الذي كاد أن يتعرّض للتصفية في زمن النميري ثم تعرّض لقمع شديد في زمن البشير، ومن دون تفسير لعدم قدرة البشير خلال ثلاثة عقود على تحويل السودان إلى «مملكة الصمت» رغم محاولته ذلك من خلال استناده إلى تنظيم الحركة الإسلامية الذي تمكّن من التغلغل في مفاصل الدولة كافة وأزاح الآخرين منها وأنشأ مليشيات ومنظمات نسائية وطلابية كما في مفاصل اجتماعية عديدة.
قوى حزبية، لم يستطع البشير أن يمحوها من الوجود تضافرت مع قوى مهنية وقوى طلابية ونسائية
يمكن لاضطراب السودان الذي نتج عن تمرد الجنوب المسلح (1983-2005) وتمرد إقليم دارفور (منذ عام 2003) أن يكون قد منع البشير من تحقيق ذلك وجعله منشغلاً أمام التمردات المسلحة، وربما أجبره على تهدئة الوسط والشمال أو منعه من القمع العنيف الاستئصالي، كما أن تجربة تمرد الجنوب قد أتاحت للأحزاب الشمالية المعارضة مجالاً للاستقواء بالجنوبيين كما في تجربة «التجمع الوطني الديمقراطي» في التسعينيات الذي ضمّ أحزاب «الأمة» و«الوطني»، «الاتحادي» و«الشيوعي» و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة العقيد جون غارانغ مع أحزاب قبلية مثل «مؤتمر البجا» في الشرق السوداني عند الحدود الإريترية. يمكن للتنوّع السوداني الإثني، حيث العرب هم الأقلية الأكبر، وشعور مناطق عديدة بالتهميش من العرب المسيطرين على السلطة منذ استقلال 1956، مثل الجنوب ودارفور والنوبيين في جنوب كردفان والأفارقة في جنوب النيل الأزرق، قد أنتجوا حيوية سياسية جعلت السياسة، وأيضاً في حالات عديدة السلاح الذي كان مربوطاً ببرنامج وجهاز سياسيين، وسيلة لنيل المطالب.
يقين, [٢٢.٠٨.١٩ ٠٦:٥٣]
يمكن لما سبق أن يفسّر حيوية وقوة «قوى الحرية والتغيير»، التي ضمّت تجمعاً عريضاً للأحزاب والقوى المهنية وللمنظمات الطلابية والنسائية، أمام عمر البشير وأمام «المجلس العسكري الانتقالي»، بل وقدرتها على قلب الموازين ضد العسكر منذ المظاهرة المليونية في يوم 30 يونيو/حزيران في شوارع العاصمة المثلثة، وهو ما لوحظ بعده تنازل العسكر عن أجنداتهم الانفرادية بالسلطة (أو المسيطرة عليها مع مشاركة مدنيّة لا توازي قوة العسكريين) واقتناعهم بمنطق التسوية والمشاركة. من المؤكّد أن استعراض عضلات «قوى الحرية والتغيير» قد أقنع العسكر باللين، ولكن على الأرجح أن خوف دول مضطربة داخلياً ومجاورة للسودان، مثل إثيوبية وتشاد، من تداعيات انفجار سوداني، قد لاقى صدى كبيراً في واشنطن وعند الاتحاد الأوروبي ودفعهما لحسابات أن انهيار فرص الاتفاق التسووي بين «المجلس العسكري الانتقالي» و«قوى الحرية والتغيير» سيقود إلى حريق سوداني سيهزّ دول الجوار الأفريقي وسيزيد اللهب الليبي اشتعالاً، وسيؤثر على الأوضاع المصرية من حيث جعل السودان المضطرب من جديد، كما كان زمن البشير في التسعينيات ضدّ حكم حسني مبارك، قاعدة للإسلاميين المناهضين لحكم السيسي بشكليهما السلمي والعنيف. هذه الحسابات الأميركية - الأوروبية - الأفريقية هي التي تغلّبت على الرأي الخليجي - المصري، الذي كان متحمّساً لجعل تجربة عبد الفتاح البرهان على خطى تجربة عبدالفتاح السيسي، وقادت إلى التسوية السودانية لحكم انتقالي يتشارك فيه العسكريون والمدنيون بالتوازي.
هنا، سيكون ليوم 17 آب/ أغسطس 2019 السوداني أصداءه الكبرى في المستقبل العربي...
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/08/22