آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

تصاعد هجرة الخليجيين الذين لم يألفوها

د. سعيد الشهابي

عرف اللبنانيون ماضيا بالهجرة الى بلدان شتى طلبا للرزق، فهم منتشرون من أمريكا الشمالية الى ادغال افريقيا حتى شمال شرق آسيا. وكانت مناهج اللغة العربية في المدارس سابقا تحتوي اطلالة على «أدب المهجر» الذي كان زاخرا بشعر متين لشعراء لبنانيين منهم إيليا ابو ماضي وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران.

وفي الوقت الحاضر لا تكاد تزور مدينة أوروبية او حتى احدى قرى الريف النائية في بعض مناطق العالم حتى تبصر عيناك مجموعات من الصينيين، سياحا وطلابا، او تجد مطعما يقدم الوجبات الصينية. وتوسع انتشارهم في السنوات الأخيرة للالتحاق في الجامعات الغربية وهو احد مظاهر النهضة العلمية والتكنولوجية في ذلك البلد الناهض اقتصاديا بوتيرة متسارعة. في الخمسينيات والستينيات كان الفلسطينيون من اكثر العرب انتشارا في بقاع الارض نتيجة الاحتلال الاسرائيلي لأرضهم وانتشارهم في ارض الشتات. وفي الثمانينيات خرج الكثير من العراقيين طالبين اللجوء في البلدان الغربية إما هربا من النظام او الحرب العراقية ـ الإيرانية آنذاك. وينتشر العرب من الشمال الافريقي في دور اوروبا الغربية نتيجة الاستعمار الفرنسي لتلك الدول. وفي السنوات الاخيرة حط الكثير منهم رحاله في بريطانيا. ولم يكن لمواطني دول الخليج وجود يذكر خارج حدود بلدانهم وذلك بسبب الاستقرار النسبي والوفرة المعيشية في بلدانهم. وعرفت مناطق الشمال الغربي من بريطانيا (خصوصا ليفربول) تواجد اعداد من اليمنيين منذ نهاية القرن التاسع عشر بسبب الملاحة المزدهرة مع الهند ومرور اساطيل شركة الهند الشرقية باليمن والتواجد البريطاني في عدن الذي انتهى في الستينيات بعد حرب طاحنة.

وفي الاعوام الأربعة الاخيرة تصاعدت ظاهرة الهجرة على نطاق واسع، وشهدت مياه البحر الابيض المتوسط حركة غير اعتيادية للمهاجرين الذين غامروا بحياتهم للعبور نحو اوروبا. هذه المرة كان للأزمة الليبية دور في نزوح الليبيين من بلادهم بعد ان عمها العنف والفوضى. ونجم عن ذلك ضجة غربية واسعة حول موضوع الهجرة حتى قيل ان من احد اهم دوافع البريطانيين للتصويت لصالح الخروج من اوروبا الرغبة في غلق الباب امام الهجرة المتصاعدة لبريطانيا سواء من الدول الاوروبية ام من المهاجرين الذين يعبرون البحر المتوسط. وما اكثر الذين غرقوا في البحار نتيجة مغامرات مجموعات التهريب التي لا تراعي قواعد السلامة بل تركز اهتمامها على مضاعفة مدخولاتها من المهاجرين الباحثين عن حياة افضل في اوروبا.

هذه الخريطة التي تطرح صورة مختصرة للانتشار الديمغرافي العربي خارج الحدود هدفها توضيح عدد من الأمور: اولها ان العرب لم يألفوا الهجرة كثيرا بل بقوا منشدين لأرضهم ولم يكن هناك ما يدفعهم للبحث عن اوطان اخرى. الثانية ان هذه الخريطة شهدت تغيرات عبر العقود بسبب تغير الظروف المعيشية في هذه البلدان. ومع انه لم تسجل حتى الآن هجرة معاكسة (اي عودة للوطن الام) تذكر الا ان بعض الهجرات تباطأ او ربما توقف تماما. الثالثة ان الشعور بالاحباط خلق ظواهر مقلقة في اوساط الشباب العربي المسلم خصوصا مع انحسار الشعور بالقوة والكرامة في مقابل عربدة العدو الاسرائيلي الذي يتحدى الامة كل يوم ويسعى لكسر ارادتها وشوكتها. فمشهد المرأة المسنة عند احد الحواجز الاسرائيلية الاسبوع الماضي وقد صوب المحتلون سلاحهم اليها وقتلوها بدم بارد لا يقل ايلاما عن منظر محمد الدرة في العام 2001 وهو يستهدف بالسلاح الاسرائيلي ليرديه قتيلا في حضن والده. الاسرائيليون يسعون لخلق حالة من الاحباط في الاوساط الفلسطينية لدفعهم للاستسلام او التخلي عن القضية او تكرار حالة الانسحاب من وجه المحتلين. ويمكن القول ان ثورات الربيع العربي قبل تسعة اعوام دفعت الكثيرين للهجرة هربا من القمع الذي تعرض له مواطنو البلدان التي شهدت حراكات واسعة مثل ليبيا ومصر والبحرين. اما الهجرة الواسعة من سوريا فناجمة في اغلبها عن الحرب التي اتت على الاخضر واليابس والتي كان المدنيون اكثر ضحاياها.

إن عدد المهاجرين الذين تقدموا بطلب اللجوء في السنة التي تولى فيها محمد بن سلمان السلطة (2015-2016) ارتفع بنسبة 52 بالمائة. هذا الارتفاع يعكس انعدام الثقة بإمكان اصلاح أوضاع المملكة

خريطة الهجرة هذه المرة تكشف حقيقة مرة تحدث للمرة الاولى على هذا النطاق الواسع. فقد هربت اعداد كبيرة نسبيا من البحرين بعد الاجتياح العسكري في منتصف آذار/مارس 2011 الذي قادته السعودية وشاركت فيه دولة الامارات العربية. كان القمع هذه المرة خارج المألوف. لقد حدثت هجرات عديدة من البحرين في الاربعين عاما الاخيرة ابتداء من العام 1980. وبشكل تدريجي تشكلت جاليات بحرانية في بريطانيا وألمانيا واستراليا ونيوزيلاندا والعراق وايران ولبنان وبعض دول الخليج.

هذا التشكل اوجد امتدادا للحركة السياسية في البحرين الامر الذي من شأنه ان يبقي قضية ذلك البلد متحركة وذات ابعاد دولية. وساهمت سياسة سحب الجنسية من المواطنين في زيادة عدد المهاجرين البحرانيين.

ولكن الظاهرة المفاجئة في الاعوام الاخيرة تنامي الهجرة من المملكة العربية السعودية وهي هجرة سياسية اساسا. في الثمانينيات اضطر البعض للخروج من الجزيرة العربية بعد ان شهدت المملكة تحركات سياسية بدأت بالحركة التي تزعمها جهيمان العتيبي في العام 1979 عندما تحصن في الحرم المكي فترة استمرت اسبوعين ولم تنته الا بعد تدخل قوات فرنسية استقدمت لذلك الغرض. وبعدها حدثت تحركات سياسية في المنطقة الشرقية تصدرتها جماعة اطلقت على نفسها «منظمة الثورة الاسلامية في الجزيرة العربية» ونجم عنها نزوح اعداد كبيرة من الشباب توجه اغلبهم الى ايران وسوريا. واستقر بعض هؤلاء في بريطانيا لاحقا. وفي غضون ثلاثة عشر عاما حدث حوار بين المجموعة والحكومة السعودية نجم عنها تفاهم سياسي ادى لعودة بعض هؤلاء الى المنطقة الشرقية. وبعدها بدأ تحرك سياسي من نجد ذو طابع ديني بمشاركة عدد من علماء الدين وبرزت «لجنة الدفاع عن العريضة الشرعية» في منتصف التسعينيات كحراك متميز. وتزامن مع ذلك نزوح بعض الافراد الناشطين الى بريطانيا وفي طليعتهم الدكتور سعد الفقيه والدكتور محمد المسعري. لم تكن هجرة هؤلاء مرتبطة بالأوضاع الاقتصادية او المعيشية بل بالحال السياسي الذي تعيشه الجزيرة العربية. ولكن الهجرة الكبرى بدأت بعد تولي الملك الحالي مقاليد الحكم خلفا لاخيه عبد الله بن عبد العزيز الذي توفي في العام 2015. وادى هذا الصعود لظهور اسم محمد بن سلمان للمرة الاولى كرمز سياسي للبيت السعودي. وبرغم محاولات الغرب اظهاره رجلا مصلحا صديقا للغرب الا ان تصرفاته سرعان ما حاصرته ولوثت سمعته، وشهد عهده تصاعد القمع واستهداف الناشطين.

فقد توسع نشاط المرأة السعودية وكسرت القيود التي فرضت عليها والتي حرمتها من السياقة وارهقت كاهلها بنظام الولاية الذي يعطي الرجل سلطة مطلقة على المرأة خصوصا في مجالات السفر والارث والتسجيلات الرسمية وسياقة السيارة. تحركت النساء المناضلات للمطالبة بالغاء تلك القيود، وسرعان ما وجدت نفسها وراء القضبان. وتحت الضغط الغربي وجد محمد بن سلمان نفسه مضطرا لإلغاء بعض القيود فسمح للمرأة بسياقة السيارة للمرة الاولى وخفف من نظام ولاية الرجل. وفي الوقت نفسه تم اعتقال العديد من النساء اللاتي تصدرن المشهد وطالبن بذلك. ومن المفارقات ان تحقق الحكومة السعودية مطالبهن بينما تستمر بابقائهن في السجن.

يقول تقرير صدر الاسبوع الماضي عن شبكة الاخبار الأمريكية «سي ان ان» ان عدد المهاجرين الذين تقدموا بطلب اللجوء في السنة التي تولى فيها محمد بن سلمان السلطة (2015 ـ 2016) ارتفع بنسبة 52 بالمائة. هذا الارتفاع يعكس انعدام الثقة بامكان اصلاح اوضاع المملكة من خلال المبادرات التي طرحها الحاكم الجديد وهي مبادرات جوفاء في جوهرها، ولا تنطلق من قناعة حقيقية بمبدأ الاصلاح وطي صفحة الاستبداد والفساد. وقد اصبحت هناك اليوم جاليات سعودية في بلدان عديدة من بينها بريطانيا التي اصبحت تضم جالية سعودية تزداد توسعا وكذلك في المانيا. ولا بد من الاشارة الى ظاهرة التمرد المنتشرة بين الشباب واستغلالها من قبل جهات اجنبية لأهدافها الخاصة. وبرغم وجود بعض حالات التمرد على الدين والعادات من قبل بعض الفتيات الا ان ظاهرة الاحتجاج على النظام بدأت تتوسع بوتيرة أكبر.

جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2019/09/30

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد