الاضراب عن الطعام سلاح نضالي فاعل
د. سعيد الشهابي
في الثالث من هذا الشهر من العام 1981 انهى السجناء الجمهوريون الايرلنديون اضرابهم الشهير عن الطعام بعد ان فقد عشرة منهم حياتهم بأمعاء خاوية لم تذق الطعام منذ بدء الاضراب في…… وكان اول من فقد حياته في ذلك الاضراب السيد بوبي ساندز الذي فتح الباب امام واحد من اطول الاضرابات السياسية في العالم.
كما شهدت الساحة الفلسطينية فترات عديدة من اضراب السجناء عن الطعام احتجاجا على سوء المعاملة واوضاع سجون الاحتلال الاسرائيلي. هنا استخدمت الامعاء الخاوية سلاحا ضد قوات يعتبرها المناضلون «محتلة» لأرضهم. وهناك الآن عشرات السجناء المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال احتجاجا على سوء المعاملة.
قبل بضعة ايام نقلت المعتقلة عايشة الشاطر من زنزانتها في سجن مصري الى المستشفى بعد تدهور صحتها بسبب اضرابها الثاني عن الطعام احتجاجا على اوضاع السجن. من سأل عنها؟ من اهتم بوضعها الصحي؟ من سيضغط على النظام المصري لتحسين اوضاع السجون واحترام حقوق المعتقلين والتوقف عن استخدام الطعام والدواء سلاحا ضد المعارضين المعتقلين؟ من سيطالب الحاكم العسكري المصري باطلاق سراحها كبريئة اولا وامرأة ثانيا ومريضة ثالثا؟ وعندما نقل الناشط المصري المعروف، علاء عبد الفتاح الى المحكمة مؤخرا تحدث امام القاضي عن المعاملة السيئة التي تعرض لها منذ اعتقاله الاسبوع الماضي من تعذيب قاس وسوء معاملة. وأدانت منظمة العفو الدولية ما تعرض له علاء من «تعذيب وحشي»، حسب قولها.
وفي البحرين يخوض عدد من معتقلي الرأي اضرابا عن الطعام للشهر الثاني على التوالي. ومن بين المضربين الناشطان الحقوقيان ناجي فتيل وعلي حاجي. وكان اكثر من 600 من المعتقلين بسجني «جو» و«الحوض الجاف» قد اضربوا عن الطعام الشهر الماضي مطالبين بتوفير الرعاية الطبية والدواء والسماح لهم بالكتب خصوصا المصحف الشريف والزيارات العائلية وازالة الحواجز الزجاجية خلال الزيارات. وتؤكد المنظمات الحقوقية الدولية على سوء اوضاع سجون البحرين واضطهاد المعتقلين السياسيين. وفي الثامن من هذا الشهر أصدرت منظمة هيومن رايتس ووج تقريرا حول اضراب المعتقلين السياسيين واوضاع السجون في البحرين. وجاء في البيان: أن من المخجل أن تحرم سلطات البحرين المعتقلين من الرعاية الطبية التي يحتاجونها على وجه السرعة، وتعريض حياة بعضهم الى الخطر.
الإضراب عن الطعام يعتبر سلاح المغلوبين على أمرهم، المعتقلين لدى الأنظمة الاستبدادية، ويهدف للضغط على تلك الأنظمة لتعديل اوضاع السجون لتكون منسجمة مع المعايير الدولية والتوقف عن امتهان كرامة الانسان. انه سلاح سلمي متاح لمن فقد كافة اساليب الاحتجاج ولم يعد لديه ما يستفيد من بقائه على قيد الحياة او يخسره من الوفاة. إنه تعبير عن شعور السجين ان الحياة والموت أصبحا متساويين في نظره، فلم يعد يهتم ان عاش او مات.
في شهر أيلول (سبتمبر) اضرب الناشط الحقوقي الاماراتي، احمد منصور عن الطعام لمدة تجاوزت الاسابيع الثلاثة بسبب سوء المعاملة وتداعي اوضاع السجن. ويعتبر منصور من أبرز ناشطي حقوق الإنسان في الإمارات، وهو أيضا مدون، ونال جائزة مارتن إينالز للمدافعين عن حقوق الإنسان عام 2015. وأوقفت السلطات الإماراتية، في آذار/مارس 2017 منصور، وجرت محاكمته في مايو/أيار 2018، وسط إدانات محلية ودولية. وطالبت منظمة العفو الدولية الحكومة الاماراتية بوقف التعسف في معاملة معتقل الرأي احمد منصور وطالبت بالإفراج عنه فورا.
كما أن لدى الانظمة اساليبها واسلحتها وسياساتها لمواجهة معارضيها، فثمة تجارب انسانية واسعة تتبادلها الشعوب المناضلة وتتكرر خلال الاحتجاجات في الشوارع والاضرابات عن الطعام وراء القضبان
عندما يتمادى النظام السياسي في استبداده واضطهاده، ويفتح سجونه على مصاريعها لمعارضيه يبدأ بالشعور بالاحباط واليأس من اخماد اصوات معارضيه التي تتزايد كلما بالغ في الانتقام والعقوبات الجائرة. وهنا يبدأ مرحلة اخرى من الممارسات الخاطئة، تبدأ بمواصلة التعذيب والتنكيل بهؤلاء الذين لا حول لهم ولا قوة، ويصل لاستخدام العلاج والدواء سلاحا ضد معتقلي الرأي. ما الهدف من ذلك؟ يأمل الحاكم أن يكسر ارادة السجين الذي تتضاءل حياته وهو قابع بين جدران اربعة. مضى على اعتقال اول دفعة من المعارضين السياسيين في البحرين بعد اندلاع ثورتهم في 14 شباط/فبراير 2011 قرابة التسعة اعوام وهم يرزحون وراء القضبان ويتعرضون لأصناف التنكيل والاضطهاد. وبعض المعتقلين في سجون البحرين يقضي عامه الحادي عشر لأنه اعتقل قبل الثورة. ومع تغول الاستبداد واللامبالاة الدولية بالديمقراطية وحقوق الانسان، يجد السجين نفسه احيانا امام جدار شاهق من الاحباط واليأس.
وهنا تساهم الاجراءات القمعية كالحرمان من العلاج والدواء والكتب والزيارات العائلية المناسبة في تعميق ذلك الشعور، خصوصا مع هذا التداعي القيمي لدى المنظومة السياسية الدولية.
وفي غياب بوادر الاصلاح السياسي يزداد الضغط النفسي على المعتقل السياسي ويبحث عن وسائل لإيصال صوته وضمان بقاء شعلة الحراك المعارض متقدة من جهة، بالإضافة لضمان قدر ادنى من مستلزمات العيش الإنساني وراء القضبان من جهة اخرى. هنا يقفز الاضراب عن الطعام امام السجين، وهو خيار صعب جدا لأن تبعاته النفسية والصحية خطيرة جدا، كما ان التوقف عند منتصف الطريق قبل تحقيق المطالب المرفوعة لوقف الاضراب يمثل لدى المضرب «هزيمة» امام السلطات التي تمتلك الأبواق الإعلامية والقوى البشرية القمعية والمستلزمات المادية للاستمرار على النمط القمعي المعهود لديها، خصوصا مع غياب الاهتمام الدولي بما يجري لنزلاء الزنزانات، او ربما التواطؤ مع انظمة الاستبداد.
وفي شباط/فبراير من هذا العام أعلن الاستاذ عبد الله الحامد اضرابا عن الطعام احتجاجا على اوضاع السجن وسوء المعاملة من قبل السلطات السعودية. وفي الشهر نفسه اضرب سعود الهاشمي عن الطعام ايضا احتجاجا على سوء اوضاع السجن وفقدان الرعاية الطبية. وفي شهر آذار/مارس الماضي دخل المعتقل عيسى النخيفي اضرابا عن الطعام بسجن مكة. وهو يقضي عقوبة بالسجن ستة اعوام اصدرتها محكمة في شباط/فبراير 2016 بسبب ما كتبه على حسابه في موقع تويتر، منتقدا فيه الحكومة، ومشيرا – فيما يبدو – إلى التدخل العسكري السعودي في اليمن. وذكرت وسائل إعلام سعودية أنه «سب الدولة، وطعن في بعض قراراتها السيادية ومحاكماتها القضائية».
تعتبر ظاهرة «استرخاص» ارواح البشر في عالم اليوم من الظواهر المقلقة جدا لذوي العقول والمشاعر الانسانية. فالذين يصنعون اسلحة الدمار الشامل ويتفننون في اختراع الطائرات والقنابل والصواريخ انما طوروها لتستطيع إلحاق اكبر الضرر بالأهداف التي تضربها، ولا يهمهم الوجود البشري عند تلك الاهداف. هذا الاسترخاص يجد مصاديق له في اساليب معاملة «الآخر» المعارض الذي يختلف مع نظام الحكم في اساليب حكمه خصوصا اذا كان البلد محكوما بالاستبداد وشعبه مغيبا عن صنع القرار، او كان هذا البلد محتلا من قوى اجنبية، كما هو الحال مع الفلسطينيين الذين يخوضون حرب وجود مع قوات الاحتلال الاسرائيلية. ولا يكاد يمر اسبوع بدون قتل عدد من الفلسطينيين خصوصا منذ بدء مسيرات العودة على حدود غزة. اما السجون الاسرائيلية فلها قصة اخرى لا تقل ايذاء عن قصص السجون العربية. وما اكثر حالات الاضراب عن الطعام في هذه المعتقلات الجائرة. فقد كانت هناك اضرابات جماعية في فترات عديدة منها في العام 2012 و2017. وقد فقد خمسة من الأسرى المضربين عن الطعام حياتهم بين عاميّ 1970 و1992، وهم: عبد القادر أبو الفحم وراسم حلاوة وعلي جعفري ومحمود فريتخ وحسين نمر عبيدات.
للوهلة الاولى يبدو ان المعتقل فقد كافة اساليب تأثيره لأنه فصل عن الحياة العامة واجبر على قضاء سنوات حياته وراء قضبان السجون وطوامير التعذيب. برغم ذلك ترتعد فرائص الحاكم الذي يشعر انه مستهدف بسلاح خطير اسمه «الامعاء الخاوية». ولذلك ما ان يبدأ الاضراب حتى توجه التعليمات لوسائل الإعلام حول طرق التعاطي معه، فذلك جانب من الخطط العسكرية في مواجهة «اعداء الحكومة». فكما ان لدى الانظمة اساليبها واسلحتها وسياساتها لمواجهة معارضيها، فثمة تجارب انسانية واسعة تتبادلها الشعوب المناضلة وتتكرر خلال الاحتجاجات في الشوارع والاضرابات عن الطعام وراء القضبان.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/10/14