عالم القرن الـ21: القوة والانتهازية بدلا من المبادئ
.د. سعيد الشهابي
في هذا العالم لا يستقيم الأمن الا بواحد من أمرين: توازن قوى الخير واعتدالها وعقلها وانسانيتها، أو توازن الرعب بين الفرقاء وهيمنة مفهوم «الردع» الذي يمنع الاطراف من الاعتداء على بعضها البعض. في الاعم الاغلب لا مكان للخيار الاول مع الاسف، بل يمكن القول ان توازن الرعب هو العامل القادر على ترويض ذوي النوايا الشريرة.
وفي عالم القرن الحادي والعشرين يمكن القول ان اغلب القيم الايجابية اصبحت عديمة الجدوى عمليا، فلا احد يلتفت لدعاة الخير والصلاح والعدل والتقوى السياسية، بل ان صوت النفاق والدجل والصراخ وجمال العرض (وان ساء المحتوى) يعم العالم. انه انقلاب خطير على ما كان العالم يسعى لتحقيقه منذ الحرب العالمية الثانية. يومها كان ثمة اعتقاد بان القوى الغربية المنتصرة سوف تستفيد من تجربته المرة لترويج قيم خيرة تبعد البشر عن الصراعات والحروب.
ولتحقيق ذلك تم ما يلي: أولا تأسست الأمم المتحدة لتجمع حكومات العالم على اسس التعايش السلمي والعمل المشترك والابتعاد عن الاعمال العدوانية الاحادية من اي طرف، والتدخل لحل الصراعات لتكون بشكل عام «وسيطا» أو ربما «حاكما» و«قاضيا» يحول دون تحول الخلافات الى حروب. وكان للأمم المتحدة دور كبير في منع الصراعات او حلها، وترويض الدول ذات النزعات العدوانية، واستطاعت ممارسة ادوار ايجابية في ذروة الحرب الباردة ودعمت نضالات الشعوب من اجل الاستقلال، وتصدت للعنصرية والاحتلال. هذا لا يعني انها نجحت في كل مبادراتها او انها منعت وقوع الحروب تماما، ولكن على الأقل وفرت فرصا للأطراف الضعيفة لطرح قضاياها وربما الدفاع عن نفسها. الثانية: ان دول العالم من خلال الأمم المتحدة استطاعت تقنين نظم ومواثيق دولية لتنظيم العلاقات بين الدول وحل الازمات. فكانت هناك مواثيق جنيف لتنظيم الحروب اذا وقعت ومنع التجاوزات الانسانية وتجنيب المدنيين شرور الانتقام والتوحش. ثالثا: انها اتاحت للشعوب المدافعة عن نفسها او الراغبة في تقرير مصيرها فرصا معقولة، ووضعت آليات لاحترام حقوق الانسان أولها الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العام 1948، ومواثيق جنيف والعهدين الخاصين حول الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية. ولكن دور الأمم المتحدة كان محكوما بارادة الدول الاعضاء. وبرغم المؤاخذات على العضوية الدائمة بمجلس الأمن الدولي الا انه عبر عن توازن القوى في فترة عصيبة من التاريخ وحال دون وقوع كوارث عسكرية او سياسية.
ولذلك يمكن القول ان ما حدث خلال العقود الثلاثة الأخيرة من تهميش دور الأمم المتحدة كان كارثيا على العالم. وكان لتداعي الاتحاد السوفياتي في 1990 دور في حدوث فراغ سياسي في قمة المنظومة السياسية والعسكرية القائمة على اساس توازن القوى. فعلى الفور حدثت تنظيرات لنظام عالمي احادي القطب، مؤسس على هيمنة أمريكا على العالم.
ولكي تحقق الولايات المتحدة ذلك استهدفت الأمم المتحدة ومؤسساتها بشكل متواصل حتى تم تهميش ذلك الدور تماما. فخاضت أمريكا حروبا خارج الاجماع الدولي وبشكل تدريجي احتلت مكانة الأمم المتحدة التي تلاشى دورها تدريجيا. وهنا اصبح هناك وضع غريب محكوم بقيم انتهازية من جهة وبالقوة العسكرية لدى الدول من جهة اخرى. فاصبح التفوق العسكري عاملا اساسيا في العمل السياسي الدولي. فمن يملك القوة يفرض ارادته، بعيدا عن الارادة الدولية ودور الأمم المتحدة.
إن عالما محكوما بالسلاح لا يمثل طموح الذين كانوا يحلمون بعالم متفاهم محكوم بالقيم والاحترام والسلام وحب الحياة. والحكام هنا مطالبون بأن يكفوا عن استخدام القوة او التهديد بها سواء في التعامل مع القوى الاخرى، ام مع الشعوب التي يحكمونها
ولكي تتضح الصورة يمكن طرح عدد من الامثلة. فما ان حدث فراغ سياسي دولي بتفكك الاتحاد السوفياتي حتى اعلنت الولايات المتحدة نظام القطب الواحد، وسعت لملء الفراغ الناجم عن تلاشي القطب الثاني الذي كان ضروريا للتوازن الدولي. فوجدت أمريكا نفسها في غنى عن حلفائها الاوروبيين، وتوجهت نحو سياسات احادية دفعت حكامها للانسحاب التدريجي من المجال الدولي والتنكر للأمم المتحدة ومقاطعة العمل المشترك على اغلب الصعدان. وشيئا فشيئا تبعت الدول الاخرى هذا المنحى، واصبحت كل دولة تنتهز الفرص لاثبات وجودها من خلال تكديس الاسلحة وبناء ترسانة عسكرية توفر لها الغلبة على مناوئيها. ويمكن القول ان الانتهازية اصبحت ايديولوجيا السياسة في مرحلة ما بعد القطبين.
فغياب دور الأمم المتحدة وفر للكيان الاسرائيلي فرصة لارتكاب جرائم كانت يداه قاصرتين عنها، وبدأت بالانقضاض على المنجزات التي تحققت بمشاركة الأمم المتحدة كالقرارين الدوليين 242 و 338 واتفاقات اوسلو ومدريد، وانقضت على السلطة الفلسطينية لتضعفها سياسيا واقتصاديا من خلال اجراءات فرضتها في غياب الدور الدولي. ويوما بعد آخر تراجعت عمليا عن التزاماتها تجاه مشروع الدولة الفلسطينية وقامت ببناء المستوطنات في اراضي الضفة الغربية بشكل خاص حتى تلاشت مساحة الارض التابعة للسلطية الفلسطينية الى اقل من النصف. ومع غياب العمل العربي المشترك مدت جسورها مع السعودية والامارات بشكل خاص ضمن مشروع تطبيعي كان يبدو مستحيلا. كما لعبت على اوتار الخلاف بين السعودية وإيران لتتدخل في الشؤون الامنية لدول الخليج وممارسة دور واسع للتصدي لثورات الربيع العربي.
وهكذا بدأ ملء الفراغ الناجم عن غياب العمل الدولي المشترك المتمثل بالأمم المتحدة. ويمكن طرح امثلة كثيرة على حالة الفوضى السياسية التي تعم العالم نتيجة لذلك.
وكان لذلك نتائج مؤذية خصوصا للمجموعات التي تقاوم الاحتلال. وبشكل تدريجي استطاعت القفز على النتائج الكارثية التي تعرضت لها في اعتداءاتها الاخيرة على لبنان في 2006 وغزة في 2008 و2009 و2014. واستطاعت، بدعم انكلو ـ أمريكي وتواطؤ سعودي ـ اماراتي بشكل تدريجي «شيطنة» قوى المقاومة.
لقد تحول العالم ذو القطب الواحد الى غابة يفرض القوي بسلاحه نفسه على الآخرين. فالامارات لا تملك سوى اسلحة متطورة مدعومة باالمال النفطي الهائل، ولذلك اصبحت لها سياسة خارجية توسعية لا تناسب حجمها البشري، وتجاوزت في تأثيرها بلدانا عربية كبرى مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر.
والامر ينطبق على الاشخاص كذلك. فعندما سقط زين العابدين بن علي من الحكم لم يعبأ به احد حتى وفاته الشهر الماضي. وكذلك كان الرئيس السوداني، عمر البشير. فبرغم صدور قرار دولي من محكمة الجنايات الدولية الا انه لم يسقط، ولكن الحراك الشعبي قبل شهور اسقطه. في عالم يفتقر للمبادئ والقيم تصبح القوة هي البديل. فعالم اليوم مستعد للتعامل مع من يمارس العنف والإرهاب اذا لم يهزم. فهذه أمريكا تحاور طالبان التي اسقطت واشنطن حكومتها بعد حوادث 11 سبتمبر. وما اكثر الإرهابيين الذين تم التفاوض معهم بعد ان اثبتوا قدرتهم على الحاق الضرر بالطرف الآخر. فمثلا سمح لخاطفي وزراء نفط اوبك المجتمعين في فيينا في 1975 بالفرار بعد الافراج عن الرهائن في الجزائر. لماذا؟ لأنهم كانوا يملكون السلاح.
ان عالما محكوما بالسلاح لا يمثل طموح الذين كانوا يحلمون بعالم متفاهم محكوم بالقيم والاحترام والسلام وحب الحياة. والحكام هنا مطالبون بان يكفوا عن استخدام القوة او التهديد بها سواء في التعامل مع القوى الاخرى، ام مع الشعوب التي يحكمونها.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/10/21