سباق المسارات في التعامل مع الحراك
ناصر قنديل
– لم تحقق كلمة رئيس الجمهورية الاختراق المأمول في الشارع، رغم ما تضمنته من تأكيد للنيات الإيجابية تجاه التعامل مع ملفي مكافحة الفساد والتعديل الحكومي، كعنوانين كبيرين للحراك، لأن الاستقطاب بلغ الذروة مع مقدرات إعلامية هائلة لتجذيره في ظل وجود مسارين في الحراك: مسار شعبي يساوي بين المسؤولين عن الحكم، رغم تمييزه لرئيس الجمهورية بحصر مسؤوليته في العجز عن ترجمة وعوده بمواجهة الفساد والفاسدين، والحديث عن اتهامات تطال بعض مَن هم حول الرئيس لا يصل حدّ ما يوجهه أهل هذا المسار من مضابط اتهام للذين بدّدوا المال العام وراكموا الديون خلال السنوات الثلاثين الماضية، بينما مسار آخر في الحراك مدعوم من المؤسسات الإعلامية الراعية والأحزاب الشديدة التنظيم والقوية العصبية، يتحدث عن كلن يعني كلن ، ليطال المقاومة بسهام الفساد من جهة، ويمرّر من جهة مقابلة تسليمه باتهام المسؤولين الفعليين عن تراكم الفساد وضياع المال العام، من باب رفع العتب، لأنه يريد للحديث عن إسقاط الحكومة شيئاً آخر هو بلوغ مرحلة المواجهة المباشرة مع رئيس الجمهورية، كغطاء للمقاومة. وفي ظل هذا الاستقطاب الحادّ تصير خلاصة الحراك معقدة لصعوبة فصل المسارين وسهولة الأحكام المسبقة حتى قبل أن يتكلم رئيس الجمهورية، ما دام لم ينطق إحدى كلمتين تشفيان غليل أصحاب المسار المنظّم، الاستقالة الرئاسية أو التخلي عن وزير الخارجية جبران باسيل.
– لأن استقالة رئيس الجمهورية مستحيلة، والضغط لبلوغها أشد استحالة، حدّد الفريق المنظّم المكوّن من حلف سياسي إعلامي قوي، خطته المرحلية بإطاحة جبران باسيل، فباسيل نجح في تكوين شبكة خصومات جعلت استهدافه موضع رضا عند مزاج شعبي وسياسي يشمل المسلمين وغير الطائفيين بعدما سُمع منه الكثير من الكلام الطائفي المسيحي، كما نجح في استعداء زعامات لم تستطع تحمّل أسلوبه ونزق مواقفه في كثير من الأحيان وتصرّفه بثقة في كثير من الأحيان الأخرى بلغت حدّ الغرور والتعالي والتفرّد، كما نجح باسيل في إثارة خوف الكثيرين من فرضية تقدّمه كمرشح قوي لرئاسة الجمهورية، فتشكلت جبهة سياسية إعلامية شعبية غير معلنة، ومعلنة أحياناً كثيرة، يجمعها التوق للتخلّص منه. وجاء الحراك وشعار كلن يعني كلن ، ليقدّم فرصة البحث بكيفية تقديم تضحيات في التشكيلة الحكومية تؤدي في النهاية لحصيلة واحدة هي إخراج باسيل من المعادلة.
– المعلوم أن إخراج باسيل إذا تمّ في قلب تعديل حكومي سيعني ربحاً كاملاً للقوات اللبنانية، وتمكينها وحدها من السعي لاستثماره في تعزيز وضعيتها في الشارع المشترك مع التيار الوطني الحر والاحتفال بانتصار سيُقدّم بصفته نتيجة ثورة شعبية ، كما سيعني توجيه ضربة قاسية للعهد ورئيس الجمهورية، وبالتالي نشوء معادلة سياسية جديدة يستشعر حزب الله أنه المستهدف من خلالها، ويدرك أن كل ما يقدّم له من إغراءات لتزيين التعديل الحكومي بتقديم التضحية بوزراء متّهمين بالفساد، لا يشكل إلا ثمناً أقلّ بكثير مما سيكسبه من يدعون التضحية من هذا التغيير في المعادلة السياسية، خصوصاً أن لدى حزب الله ما يكفي من المعلومات عن أن التخلّص من باسيل ليس هدفاً محلياً، بل هو تلبية لمطلب خارجي عربي غربي، ناتج عن مواقف باسيل في ملفات حساسة كالموقف من المقاومة والحرب في سورية وعودة النازحين وعودة سورية إلى الجامعة العربية، وهي مواقف تفوق أهمية بكثير بنظر حزب الله ما تراه من أسباب داخلية للانزعاج من مواقف لا يوافق عليها حزب الله بالضرورة، وشعار المطلوب رأس باسيل بنظر المقاومة ليس داخلياً، ولو كان لبعض الداخل حساباته وأسبابه، ويبقى السؤال بنظر المقاومة هو هل نتقدّم هكذا نحو مكافحة الفساد الذي يشكل قضية الحراك الأولى عبر هذا المسار أم نمنح البراءة لأصحابه الحقيقيين؟
– المسار البديل يشكل تحدياً لتحالف حزب الله والتيار الوطني الحر، ولا يبدوان بعد في دائرة سلوكه، وهذا ما يمنح خصومهما فرصة الإمساك بزمام المبادرة، ويحول دون تشكيل حلف واسع تجمعه خطة إنقاذ تحاكي الحراك، وتلبي مقتضيات تحصين المقاومة وتصحيح مسار العهد، ويبقي مشروع التعديل الحكومي في صدارة الخيارات رغم ما فيه من مخاطر، وركيزة المسار البديل الابتعاد عن حسابات السياسة الضيقة في الأرباح والخسائر، والإقدام على طرح مشروع في التداول يقوم على عنوانين حصرياً: الأول تلبية دعوات الساحات لقانون انتخاب خارج القيد الطائفي وفقاً للنظام النسبي على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة، والسير بانتخابات مبكرة في الربيع المقبل ستستدعي حكماً حكومة من غير المرشحين فتلبي مطلب استقالة الحكومة مع مطلع العام، بعدما تكون آخر مهل الخطة الإصلاحية التي أعلنتها الحكومة الحالية قد انقضت، والعنوان الثاني السير بإجراءات ملموسة في مكافحة الفساد عبر السير الفوري بإقرار قوانين رفع الحصانات والسرية المصرفية عن كل مَن يتولّى أو تولّى الشأن العام في كل ملاحقة تتصل بالهدر والفساد، وتشكيل هيئة قضائية عليا تتولّى التحقيق في الحسابات والشكاوى والملفات، على أن تنتهي ورشة الإقرار للقوانين وتشكيل المحكمة خلال شهر، لبدء العمل، وتقديم أفعال كانت المقاومة تنتظر فرصة السير بها وهي تلاقي مسعاها والتزامها بمكافحة الفساد.
– خطة لستة شهور تبدأ بشهر تنتهي معه عملية إقرار قوانين الانتخابات والملاحقة المالية، وتتشكل هيئات مستقلة للإشراف على الانتخابات وملاحقة مصير المال المنهوب، ومكافحة الفساد، وخلال ثلاثة شهور حكومة من غير المرشحين للإشراف على انتخابات مبكرة وفقاً للقانون الجديد، تنتهي بها مهلة الشهور الستة، هي خارطة الطريق التي يمكن أن تحقق الصدمة الإيجابية المأمولة، وتشكل استقواءً بالشعب لتصحيح مسار السايسة وتفادياً للمطبات والفخاخ التي ينصبها الآخرون لحرف الأمور نحو مسار يتربّص بالمقاومة من بوابة التربّص بالعهد كخط دفاع يمكن لسقوطه أو إضعافه أن يحمل الكثير من الأذى على المقاومة والبلد من دون أن يحقق شيئاً للشعب، بل على العكس يؤبد حكم الفساد وهو يردّد يسقط حكم الفاسدين. فالفتنة تقع عندما يلبس الباطل ثوب الحق، وردّها لا يتحقق إلا بحق بائن يواجه باطلاً بائناً.
– تحتاج البلاد مَن يخرج على الناس ويعلن لها خارطة طريق واضحة لخطوات واضحة، قبل أن يُجبَر على تقبل خطوات واضحة وأفعالاً واضحة في الاتجاه المعاكس، فقد انتهى زمن الأقوال مهما كانت قيّمة.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/10/25