الأزمات الاقتصادية ولادة أميركية من وحي قوتها العالمية والحلول في علم الاقتصاد ليست «كنزية» والصين قلق عالمي
سماهر الخطيب
لطالما كانت العولمة سلاحاً ذو حدّين فمن جهة أدّت إلى تطور عالمي غير مسبوق في المجالات كافة وربطت العالم كله ليصبح قرية واحدة، ومن جهة جعلت هذه القرية العالمية تتأثر أحياؤها الصغيرة والكبيرة بكلّ حدث يطرأ في أحد أحيائها من الإرهاب العابر للحدود إلى السياسات النقدية والهندسات المالية التي ربطت العالم كله بحلقة واحدة يدور الجميع في فلكها تحت مسمّى الرأسمالية والليبرالية الجديدة، وليس من مثال أدلّ على ذلك أقوى من أزمة الرهن العقاري الأميركي التي باتت تسمّى بالأزمة الاقتصادية العالمية 2008 والتي انتقلت من أميركا إلى العالم عبر «العولمة» وربط المصارف بعضها ببعض والأهمّ ربط التعامل بل وحصره بالدولار الأميركي في سوق الصرف.. فالولايات المتحدة التي ترأست الهرم العالمي لقرن من الزمن وامتصّت خيراته لتحقيق مصالحها لم تبخل عليه بانعكاس أزمتها الاقتصادية وكأنها تقول للعالم «أنا وليّكم الأعلى» وبالتالي «ما يصيبكم من خير فهو مني وما يصيبكم من شرّ هو من أنفسكم» متناسية أنها ملكة الشر وراعيته…!
مجالات الهيمنة الأميركية
وفي العودة إلى رأس الهرم العالمي الولايات المتحدة الأميركية فإنّ ما جعلها تترأسه كونها تتمتع بقوة اقتصادية عظمى تتجلى مظاهرها في مؤهّلات جعلت منها تهيمن على عدة مجالات في العالم نظراً لاعتبارها قوة عالمية بسبب امتلاكها للعوامل الطبيعية والاقتصادية والبشرية..
ففي المجال الاقتصادي، تمتلك أميركا اقتصاداً قوياً ومتوازناً، حيث تسيطر مؤسّساتها الاقتصادية على معظم المقاولات الضخمة، كما يعدّ الدولار الأميركي من أهمّ العملات، ويستخدم في معظم مبادلات العالم ممّا يزيد من قوّته، ومن مظاهر القوة الاقتصادية، أنها تحتلّ المرتبة الأولى في قطاع زراعة الذرة، والقمح، والقطن، وهي من أهمّ الدول في تربية الماشية وأهمّها الأبقار، حيث تمتلك مساحات شاسعة للزراعة، ومناخها صالح للزراعة، بالإضافة إلى اعتمادها في الزراعة على التطوّر الإلكتروني ممّا يزيد من إنتاجها.
وتحتلّ المرتبة الأولى في قطاع صناعة النحاس، وتكرير البترول، والموادّ الكيماوية، وتحتلّ المرتبة الثالثة في صناعة السيارات والفولاذ، حيث تمتلك أكبر المصانع في العالم، ويعود ذلك إلى توفّر الموارد الطبيعيّة والمعادن وإلى تطوّر البحث العلمي ووجود الكوادر البشرية ذات الخبرة والكفاءة المرتفعة في الصناعة.
وتهيمن على المبادلات التجارية العالميّة، حيث تستحوذ على نسبة كبيرة من صادرات العالم الصناعيّة، كما تقوم بالاستيراد من بعض المناطق والدول، ويعود ذلك إلى انفتاحها على واجهتين بحريّتين، وكثرة الإنتاج الزراعيّ والصناعيّ، وقوّة بنيتها التحتية التي تمكّن نقل البضائع بالمواصلات ووجود سوق استهلاكي ضخم.
أما في المجال الثقافي، فتحتلّ المرتبة الأولى في الإنتاج الثقافي من حيث إنتاج الأفلام، والأشرطة، والصور وغيرها، فساعد ذلك على زيادة ثقافة سكانها والسيطرة على نمط العيش ونقل «ثقافتها» إلى العالم أجمع عبر الأفلام وغيرها..
ومن جهة المجال العسكري، تعدّ أقوى قوة عسكرية موجودة في العالم، حيث إنّ أساطيلها موجودة في مختلف بحار ومحيطات مناطق العالم وتجهيزات جيشها المتطوّرة وتحالفها مع العديد من الدول، حيث إنّها تتدخل في مختلف النزاعات.
وفي المجال المعلوماتي والتكنولوجي، فتحتلّ أكبر مرتبة من حيث إنتاج المعلومات والتكنولوجيا، فأصبحت رائدة في مجال الصناعات الفضائية وهي أوّل الدول تصل إلى الفضاء، حيث تصنع الصواريخ والمركبات الفضائية..
سرّ قوة الدولار الأميركي..
يتمتع الدولار بقوة تدفعنا للتساؤل عن سر هذه القوة التي تجعل الولايات المتحدة الأميركية مستثناة من قوانين الاقتصاد بالرغم من سيطرتها على ثلاثة مؤسسات مالية رئيسية: البنك الدولي WB ، صندوق النقد الدولي IMF ، ومنظمات التجارة العالمية WTO ، من خلال وسائل متنوعة..
وبالتالي تسيطر الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، فيما تنصح المؤسسات السالفة الذكر الدول الأخرى بـ»التعقل» حتى لا يكون لديها عجز في ميزان المدفوعات أو في التمويل الحكومي.
في المقابل نرى أميركا نفسها لديها عجوزات هائلة في ميزان المدفوعات والتمويل الحكومي، وذلك من وقت لآخر، وما من أحد في صندوق النقد الدولي يطلب منها «التعقل» وضبط النفس!.
كما أنّ العملات جميعها تشهد انخفاضاً كبيراً إلا أنّ قيمة الدولار الأميركي لم تشهد ذلك الانخفاض الكبير، ولا توجد إشارة حتى على إفلاس وشيك لاقتصاد الولايات المتحدة.. فما هو سرّ هذه القوة بالرغم من أنّ الوضع الخاص للدولار؟ والذي بات مهدّداً مرات عدة منذ أن أطلقت أوروبا اليورو.
وإذا ما أردنا تفسير سبب قوة الدولار في الواقع سنجده العملة الاحتياطية العالمية ويصل إلى ما يقرب من ثلثي كافة احتياطيات التبادل الرسمي، وأكثر من أربعة أخماس كافة التعاملات التبادلية الأجنبية..علاوة على ذلك، فإنّ كافة قروض صندوق النقد الدولي معينة بالدولار.
وبالتالي فإنّ قوة الدولار لا تسوغها القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، لأنّ ما تستطيع الولايات المتحدة تصديره يمكن الحصول عليه من مصادر بديلة.
وتقريباً لا تتكلف الولايات المتحدة شيئاً في إنتاج الدولارات، فإنّ العالم يستعمل العملة بهذه الطريقة يعني أنّ الولايات المتحدة تستورد كميات ضخمة من السلع والخدمات بدون مقابل في واقع الأمر. إذ أنه بمقدار ما يتداول الدولار خارج أراضيها، أو يستثمر من قبل مالكين أجانب في أصول تجارية أميركية بمقدار ما يتوجب على بقية العالم أن يزوّدها بالبضائع والخدمات مقابل هذه الدولارات.
ومن ناحية أخرى فلم تؤثر الخطوات التي اتخذها الاحتياط الفيدرالي من أجل إغراق العالم بالدولارات كثيراً على قيمة العملة، بل زادت جاذبية الأصول الأميركية في وقت تحتاج فيه الحكومة إلى أقصى دعم ممكن من جانب المستثمرين الأجانب.
وبالرغم من أنّ الوظيفة التي يلعبها الدولار كـ»ملاذ آمن» لا زالت فعّالة، إلا أنّ مسؤولين متخصّصين في مراقبة أداء العملات في الصين وألمانيا والبرازيل قالوا بأنّ «سياسات الاحتياط الفيدرالي هي السبب في إضعاف قيمة الدولار».
وما يؤكد امتداد الأزمة الاقتصادية وعدم استئصالها جذرياً أنه في عام 2010 أرسل رئيس مجلس النواب، جون بوينر، من ولاية أوهايو وثلاثة أعضاء جمهوريين آخرين خطاباً إلى رئيس مجلس إدارة الاحتياط الفيدرالي، بين بيرنانكي، يعبّرون فيه عن «مخاوفهم العميقة» من خطة البنك المركزي الممثلة في طباعة أوراق نقدية لشراء سندات، قائلين إنها «تهدّد بإضعاف قيمة الدولار وحدوث ارتفاع هائل في قيمة الأصول»…
أزمة اقتصادية ستغيّر النظام العالمي
منذ أكثر من عام تقريباً، دق ناقوس الخطر، محذراً من أزمة اقتصادية كبيرة ستعصف بالاقتصاد العالمي، وستكون أشدّ فتكاً من سابقتها المالية التي حدثت في 2008، سينتج عنها ولادة نظام عالمي جديد مختلف تماماً عن الواقع الحالي.
فما تشهده الدول الغربية والعربية وكذلك الأميركية من تفاقم في الأوضاع المعيشية ونقمة من الشعوب باتجاه سلطاتها السياسية ليس وليد ليلة وضحاها إنما هو امتداد لأزمة 2008 وبات العالم اليوم على شفير بركان قد ينفجر في أيّ لحظة والسبب الأول يعود كما سبق وأسلفنا إلى «العولمة» وربط الهندسات المالية والسياسات العامة المحلية بتلك الأميركية التي أصلاً تعاني ما تعانيه من أزمات وعثرات باتت واضحة المعالم.. لتصبح معها بوادر الأزمة الاقتصادية واضحة، ومن أهمّ هذه البوادر «إفلاس» العالم، فحجم الدين العالمي ثلاثة أضعاف الناتج القومي الإجمالي العالمي، حيث إنّ الناتج القومي الإجمالي العالمي 85 تريليون دولار، إذا جمعنا كافة مداخيل العالم مجتمعة، بمعنى أنّ العالم مديون بنسبة 300 من قيمة الناتج القومي الإجمالي، وهذا إفلاس حقيقي..
كما أنّ أوروبا مرّت منذ عامين، بانكماش اقتصادي، ما دفعها إلى وضع حدّ على ألا يزيد الدين العام على 60 من الناتج القومي، ناهيك عن أنّ الولايات المتحدة تمرّ حالياً بمرحلة انكماش اقتصادي، فلديها عجز سنوي يقدّر بنحو تريليون دولار، ويبدو أنّ اختيار رئيس أميركي من خارج عالم السياسة والمجيء به من عالم اقتصادي بحت كي لا تسمح الإدارة الأميركية بحصول الانهيار الاقتصادي المتوقع، وأفادت مراكز الدراسات الأميركية بأنّ «ترامب سيصطنع حرباً مع الصين، يكون الهدف منها الجلوس مع الصين على طاولة مفاوضات، والتفاهم على نظام عالمي جديد بين الطرفين». وهذا أمر ترفضه الصين حتى الآن..
فالعالم يتجه إلى أزمة اقتصادية عالمية مهمة جداً، لم يحصل مثلها في هذا القرن، وهي مختلفة تماماً عن الأزمة المالية في 2008، حيث كانت أزمة سوق مال بحتة، ولم تكن أزمة اقتصادية إطلاقاً، وسوق المال هو السوق الموازي للسوق الاقتصادي، ولا علاقة له ولا أثر له على الناتج القومي، فمن يربح ويخسر هم المتضاربون في الأسهم وفي الأوراق المالية، أما هذه الأزمة فستصل إلى مرحلة تضمّ الكساد وغلاء الأسعار في أوائل عام 2020.
وبالنظر إلى الاقتصادات الناشئة مثل الصين والهند فمن الممكن أن تكون أكثر قدرة على التكيف مع الأزمة، ومن المتوقع أن تزدهر مقارنة مع اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا.. كما أنّ بعض الدول الأفريقية ستصبح أكثر تطوّراً، فيما ستنعكس الأزمة على اقتصادات دول المنطقة ويبقى النمو مرتبط بعائدات النفط بشكل رئيسي..
مبرّرات افتعال الحرب بين البلدين
وفي الحديث عن عائدات النفط نجد محاولات أميركية للسيطرة على أماكن وجود النفط، ليس لحاجتها إليه فحسب بل لهدف آخر يضاف إلى بنك أهدافها وهو منع وصول النفط إلى الصين، ووضع قيود على تداول الدولار في الصين، بالإضافة إلى محاولة إغلاق الطريق إلى بحر الصين الجنوبي وما تعيثه من سياسات هنا وهناك، تزيد من شرارة الأزمة، وتشعل فتيل الخوف الأميركي من الصعود الصيني المتمثل بمشروعه «الحزام والطريق».. وربما ستسجل أسعار النفط ارتفاعاً خلال الأزمة ليصل سعر البرميل إلى 200 دولار، لتلجأ الصين إلى طرح عملة دولية بديلة للدولار…
ولا بدّ أن يكون هناك وسائل للخروج من الأزمة هذه التي سببها هو الصراع مع الصين كاقتصاد، ومن سيحكم العالم تقنياً واقتصادياً، وبما أنه أصبح هناك تقارب كبير بين قوة الصين وقوة الولايات المتحدة وبنسبة نمو في الصين تزيد على 6 ونسبة نمو في الولايات المتحدة تقلّ عن 2 ، نحن إذًاً أمام فجوة تكبر يومياً، أيّ أنّ الاقتصاد الصيني سيتفوّق على الاقتصاد الأميركي، وهي متفوّقة كتجارة، وهي التاجر الأول في العالم في التقنية والاقتصاد.
وقد صرّح ترامب عدة مرات بأنّ «الصين سرقت تريليونات الدولارات من الولايات المتحدة من خلال سرقة حقوق الملكية الفكرية، ولهذا الولايات المتحدة تطالب الصين يتعويضات»، بالتالي لا بدّ للرئيس الأميركي أن يعمل شيئاً، والموضوع ليس ضرائب، فالموضوع هو هيمنة أميركا على العالم والصين تلعب دوراً ذكياً في هذه الأزمة، والحرب ستكون مدّتها قصيرة جداً وينتهي الموضوع بالجلوس على الطاولة والتفاهم على نظام عالمي جديد بين الطرفين.
المقدمات التي تنبئ بهذه الأزمة
من مقدمات هذه الأزمة، بلوغ قيمة إيرادات الولايات المتحدة 3.5 تريليون دولار، فيما المصروفات بلغت 4.5 تريليون بعجز بلغ تريليون دولار، وهذا الرقم الكبير السنوي، وهو رقم كبير جداً، تحتاج الولايات المتحدة إلى البحث عن مصادر دخل للحدّ من تفاقم هذا العجز، وكذلك إعلان الولايات المتحدة عن لعبة الدولار مع الصين، وهو صراع كبير مع العلم أنّ دور الدولار في الاقتصاديات العالمية دور رئيسي..
في المقابل للصين مشروع واحد فقط وقالت لأميركا بعدة طرق مباشرة وغير مباشرة، إن لديها مشروع «الحزام وطريق الحرير»، كما أنّها تدرك تماماً أنّ التفوق التقني والاقتصادي هو الطريق القادم في المستقبل للسيطرة والهيمنة على العالم، وهي تحاول أن تتخصّص في كلّ القطاعات الأخرى، ويهمّها أن تحصل على القيمة المضافة من خلال العمل بشكل كبير في القطاعات الأخرى، فنجدها سجلت خلال العام الماضي 8000 شركة جديدة، وتنتج وتسجل نصف مليون براءة اختراع سنوياً، فالصين عندما تستضيف مصانع أبل وبوينغ، فمثلاً مصنع أبل فيه 260 ألف عامل وهذا غير القيمة المضافة أيضاً، بالتالي لديها أيضاً صناعات عسكرية وتكنولوجية، وهناك توزيع أدوار، فهي تؤمن بأنّ الدور العسكري هو دور روسيا، بالتالي هذا التنسيق بين الصين وروسيا تفتقده أميركا، مع تركيز الصين على الاختراعات التي باتت مقلقة لأميركا في كلّ المجالات..
في المقابل تحتاج أميركا إلى حليف قوي، ولا شك أنّ بريطانيا هي أقوى حليف للولايات المتحدة، خاصة أنّ بريطانيا تلعب دوراً مهماً في كلّ العالم، ولديها الخبرة في تقسيم العالم و»سايكس – بيكو» شاهد حتى يومنا هذا، الأمر الذي يفسّر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي هو لتلعب بريطانيا دور روسيا مع الصين..
اصطناع الأزمة
الولايات المتحدة ستقوم بإغلاق «الحزام والطريق» أيّ الطريق المؤدي إلى بحر الصين، ولذلك تحاول أميركا السيطرة على أماكن وجود النفط، وآخرها سورية والعراق، حيث تريد وضعها على النقط، بالتالي إذا منعت وصول النفط إلى الصين تكون بداية الأزمة، ونحن نعلم أهمية النفط كعنصر طاقة للاقتصاد الصيني، لذلك سيحدث الصدام، كما أنّ حرب البواخر مع إيران هي إشارات فقط ليس إيران المقصودة بشكل مباشر، وهي ليست لاعباً في هذا الموضوع، فيما تأخرت كلّ دول العالم في الاتجاه إلى القارة الأفريقية كوجهة استثمارية، فالصين تملك أكثر من 3000 مؤسسة في أفريقيا، ودخلت بقوة كبيرة، فنقلت كذلك المواجهة إلى القار السمراء..
بالتالي سيتوقف كلّ شيء في الصين، والأزمة ستستمر عدة شهور ثم يقوم الطرفان بالجلوس على طاولة المفاوضات، ودائماً الحروب تنتهي باتفاقيات، وايجاد مبدأ جديد يحكم النظام الدولي، كما الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحروب الإقليمية، وسينتج عن ذلك نظام عالمي جديد تماماً مختلف عن النظام الحالي.
الحرب العالمية الثالثة
لا بدّ من الحرب العالمية الثالثة وهي واقعة لا محال، وأحد مراكز الأبحاث الأميركية يقول إنّ «ترامب سيصطنع الحرب مع الصين»، وبالتالي من المؤكد أنّ الحرب التجارية ستتطور إلى حرب عسكرية بين الطرفين، لأنّ الهدف الأميركي إرغام الصين على الجلوس معها للاتفاق على عالم ثنائي، والصين للآن ترفض الجلوس على الطاولة، فالحروب ليست بالضرورة نتائجها سيئة، فأوروبا على سبيل المثال نهضت بعد الحروب العالمية وخطط مارشال.
وبعد هذه الحرب ستكون هناك نهضة كبيرة في العالم وستكون بدايتها في المنطقة العربية، لأنّ أكثر هدم وتدمير حدث في المنطقة العربية، باعتبارها «محور العالم» وخزانه الغذائي والنفطي، بالتالي فرص الإعمار وتمويله هائلة، من خلال الثروات الموجودة في المنطقة العربية، وما تريده أميركا الآن هو «التموضع» لفرض دورها في عملية إعادة الإعمار، ولن تنتهي الحرب في سورية وفق الرؤية الأميركية إلى أن تقول سورية «إنّ أبوابنا مفتوحة لكلّ من يريد الإعمار»، فأميركا لن تسمح بإقصائها..
كذلك بالنسبة للبنان والعراق، ما تشهده من أزمات معيشية عائد إلى تلك الحرب «الاقتصادية» والتي أسفر عنها ترجمة خاطئة كالنسخ واللصق للسياسات المالية الأميركية متناسين أنّ ما يمكن حصوله مع دولة ذات واردات كبيرة ليس كما يحصل مع من لا يملك السيطرة حتى على وارداته..
تحديات السياسة النقدية من وجهة تخصصية
واليوم يواجه محافظو البنوك المركزية حول العالم والباحثون الذين يتابعونهم لحظة التأمل السنوية في اجتماعات جاكسون هول التي انعقدت في ولاية «وايومنغ» الأميركية.
بعد أن تمركز موضوع اجتماعات العام الحالي، حول «تحديات السياسة النقدية»، وما يحتويه من مخاطرة، وفقاً لرؤية تحليلية نشرها موقع «بروجيكيت سينديكيت» لوزير الخزانة الأميركي الأسبق «لورانس سامرز».
السياسة النقدية غير كافية
إنّ تغيير أهداف التضخم واستراتيجيات التواصل أو حتى الميزانيات العمومية لا يمثل استجابة كافية للتحديات التي تواجه الاقتصادات الرئيسية في الوقت الراهن.
وعلى العكس، فإنّ 10 سنوات من تراجع معدل التضخم أدنى المستهدف في جميع أنحاء العالم المتقدم وسط توقعات الأسواق باستمرار الوضع لمدة 30 عاماً قادمة، إضافة إلى الفشل الذريع لجهود بنك اليابان المكثفة لزيادة معدل التضخم، وهو ما يشير إلى أنّ «ما كان يعامل في السابق على أنه بمثابة أمر بديهي هو في الواقع مسألة مضللة»..
كما أنه لا يمكن للبنوك المركزية دائماً تحديد معدلات التضخم من خلال «السياسة النقدية».. والدليل أنّ أوروبا واليابان عالقتان في ما قد يطلق عليه «الثقب النقدي الأسود»، وهو فخ السيولة الذي يعني أنّ هناك مجالاً محدوداً للغاية للسياسة النقدية التوسعية.
فيما تبعد الولايات المتحدة بمرحلة ركود اقتصادي واحدة فقط عن مصير مماثل لأوروبا واليابان، بالنظر إلى أنه «لن يكون هناك مساحة كافية لخفض معدلات الفائدة عندما يأتي موعد الاتجاه الهابط القادم».
وفي ظلّ سندات حكومية لآجل عشر سنوات بمعدلات فائدة عند 1.5 بالمائة والفوائد الحقيقية السالبة، فإن المجال أمام التيسير الكمي، والتوقعات المستقبلية لتوفير حافز تراكمي محدود للغاية، حتى مع افتراض أنّ «هذه الأدوات فعالة» وهو أمر مشكوك فيه.
التطورات تدعم مفهوم الركود المزمن
يبدو أنّ هذه التطورات ستوفر المزيد من الدعم لمفهوم الركود المزمن، لكن في الواقع فإنّ القضية أكثر عمقاً مما هو مقدّر بشكل عام.
وبالنسبة إلى ما كان متوقعاً عندما سعى سامرز لإحياء مفهوم الركود المزمن في عام 2013، فإنّ مستويات العجز والديون الوطنية كانت أعلى بكثير، كما أنّ معدلات الفائدة الاسمية والحقيقية كانت أقلّ، لكن مع ذلك كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي يشهد تباطؤاً أكبر بكثير.
ويشير ذلك إلى مجموعة من القوى التي تعمل على تقليص الطلب الكلي، والذي تمّ تخفيف آثاره بشكل جزئي فقط من خلال السياسات المالية.
وتترسّخ المناقشات التقليدية للسياسة في المدرسة الكينزية الجديدة والتي أصبحت قديمة الآن والمتمثلة في النظر لمشكلات الاقتصاد الكلي على أنها بمثابة انعكاس للاحتكاكات التي تؤدّي إلى إبطاء التقارب مع توازن السوق.
وتكمن الفكرة في أنّ الجمع بين معدل التضخم المنخفض ومعدل الفائدة الحقيقي المحايد والآخذ في الهبوط إضافة إلى الحدّ الأدنى الفعال لمعدلات الفائدة الاسمية قد يحول دون استعادة حالة التوظيف الكامل.
وبحسب هذه الرؤية، فإنّ أيّ شيء يمكن القيام به لخفض معدلات الفائدة الحقيقية يعتبر بمثابة أمر بناء، وفي ظلّ مرونة كافية في معدل الفائدة فإنه يمكن التغلب على الركود المزمن.
ومع كون المشكلة المباشرة هي معدلات الفائدة المفرطة، فإنّ النظر إلى البنوك المركزية والسياسات النقدية أولاً من أجل إيجاد حلّ يُعدّ «أمراً طبيعياً».
وعلى نحو متزايد، نشك في أنّ الأمور قد تكون بهذا الوضوح، حيث إنّ الاتجاه شبه العالمي بين محافظي البنوك المركزية قد يكمن في تفسير التزامن بين معدلات الفائدة المنخفضة للغاية وعدم تسارع التضخم على أنه بمثابة دليل بأنّ معدل الفائدة الحقيقي المحايد قد انخفض، وعلى استخدام أطر السياسة النقدية التقليدية مع معدل فائدة حقيقي محايد متغيّر.
الأدوات القديمة تهدّد بتعميق الأزمة
لكن مزيداً من التفسيرات المشؤومة أمر ممكن، حيث إن هناك أسباباً قوية للاعتقاد بأن «قدرة معدلات الفائدة المنخفضة على تحفيز الاقتصاد قد تضاءلت أو ربما سارت في الاتجاه العكسي».
وتراجعت حصة قطاعات السلع المعمرة الحساسة لمعدلات الفائدة في الناتج المحلي الإجمالي. وتزايدت أهمية تأثير الادخار المستهدف مع انخفاض معدلات الفائدة، في حين أن الأثر السلبي لتقليص معدلات الفائدة على الدخل المتاح قد تزايد مع ارتفاع الديون الحكومية.
ويقوض تراجع معدلات الفائدة في البيئة الحالية المراكز الرأسمالية للوسطاء الماليين البنوك وغيرها وبالتبعية قدرتهم على الإقراض.
عولمة الدورة الاقتصادية
ومع عولمة الدورة الاقتصادية، فإنّ مسار سعر الصرف بات أقلّ أهمية بالنسبة للسياسة النقدية، كما أنه نظراً لأنّ معدلات الفائدة الحقيقية سالبة فمن المشكوك فيه أن تمثل تكلفة رأس المال أمراً هاماً بالنسبة للاستثمار.
وبالنظر إلى أكثر الحالات سلبية أولاً، فمع تسبّب تقليص معدلات الفائدة في آثار إيجابية وسلبية على الطلب، فربما لا يكون هناك معدل فائدة حقيقي متوافق مع الاستفادة المتكاملة من الموارد.
وربما يعمل خفض معدل الفائدة أدنى مستوى معيّن على تقييد الطلب بدلاً من زيادته، وفي هذه الحالة، لن تكون السياسة النقدية عاجزة عن تحقيق التشغيل الكامل للعمالة فحسب بل ستكون كذلك «عاجزة عن رفع معدل التضخم».
وإذا كان الطلب يتراجع باستمرار عن القدرة، فإنّ منحنى فيليبس يعني أنّ معدل التضخم سيميل إلى الانخفاض وليس الارتفاع.
وحتى إذا أدّت تخفيضات معدل الفائدة عند كلّ النقاط تقريباً إلى زيادة الطلب، فإنّ هناك أسباباً وجيهة للقلق إذا كان هذا التأثير سيكون ضعيفاً.
ويمكن أن يتمّ إبطال أيّ أثر إيجابي قصيرة الآجل على الطلب بالآثار السلبية الناجمة عن معدلات الفائدة المنخفضة على الأداء اللاحق، وهو ما قد يحدث لأسباب ذات الصلة بالاقتصاد الكلي أو الاقتصاد الجزئي.
ومن منظور الاقتصاد الكلي، فإنّ معدلات الفائدة المنخفضة تعزز ديون الرافعة المالية، وفقاعات الأصول عبر تقليل تكاليف الاقتراض كما تشجع المستثمرين على السعي لتحقيق عوائد.
وتعزي تقريباً كلّ قصة تعود للأزمة المالية لعام 2008 بعض الدور على الأقلّ للعواقب الناجمة عن معدلات الفائدة المنخفضة للغاية والتي كانت سائدة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وعلى نطاق أوسع، فإنّ الباحثين في مجال الفقاعات بدايةً من المؤرّخ الاقتصادي تشارلز كيندلبيرغر ومن بعده، يؤكدون دائماً على دور الأموال الرخيصة والسيولة الوفيرة.
ومن منظور الاقتصاد الجزئي، تعمل معدلات الفائدة المنخفضة على تقويض قوة الوسطاء الماليين من خلال تقليص ربحيتهم وعرقلة الكفاءة في تخصيص رؤوس الأموال من خلال تمكين حتى الشركات الأكثر ضعفاً من تلبية التزامات خدمة الدين وربما تمنع كذلك المنافسة عن طريق تفضيل الشركات القائمة.
كما يوجد خطر بالنسبة لاقتصاد تستطيع فيه الشركات الاقتراض والاستثمار بشكل مربح حتى وإن كان عائد المشروع المعني لا يحقق أيّ عائد.
وتشير هذه الاعتبارات إلى أن تقليص معدلات الفائدة قد لا يكون مجرد أمر غير كافِ بل ربما يأتي بنتائج عكسية في حقيقة الأمر.
وترتبط هذه الصياغة بشأن رؤية الركود المزمن بشكل وثيق بالمقالة النقدية للخبير الاقتصادي «توماس بالي» تحت عنوان «اقتصاد الحدّ الأدنى الصفري»: معدلات الفائدة السالبة قد لا توفر علاج للبطالة التي وصفها الاقتصاد الكينزي.
وبوجه عام، في التحرك نحو رؤية الركود المزمن، لقد توصلنا إلى اتفاق مع النقطة التي أكد عليها كتّاب مختلفون في فترة ما بعد التقليد الكينزي وربما بشكل أكثر دقة، الكينزيون الأصليون : من المفترض إلغاء التأكيد على دور الاحتكاكات والجمود الخاص بدعم التقلبات الاقتصادية نسبة إلى النقص الأساسي في الطلب الكلي.
وإذا كان تخفيض معدلات الفائدة غير كافٍ أو ذا نتائج عكسية، فإنّ براعة محافظي البنوك المركزية في تيسير السياسة النقدية في بيئة من الركود المزمن هي أمر غير مطلوب، ولكن المطلوب هو الاعتراف بالعجز من أجل تحفيز الجهود التي تبذلها الحكومات لتعزيز الطلب من خلال السياسات المالية وغيرها من الوسائل.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/11/06