«الشعب يريد إسقاط النظام» كيف؟ وما البديل؟
عصام نعمان
شعارات ومطالب متعددة أطلقتها وتُطلقها جماهير الحراك الشعبي منذ 25 يوماً. أبرزها وأكثرها شعبية وانتشاراً: «الشعب يريد إسقاط النظام»، أيّ نظام يريد الشعب إسقاطه؟
لا جوابَ محدداً، ذلك أن أهل الحراك متعدّدو المشارب والتطلعات. بعضهم يعني بإسقاط النظام الإطاحة برموزه الثلاثة الكبار: رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة. بعضهم الآخر يعني به إسقاط النظام السياسي الطائفي بكل سلطاته ومؤسساته وأجهزته. أما الأكثر جدّية ووضوحاً فيعني به نظام المحاصصة الطائفية بين متزعمي الطوائف والأحزاب والتكتلات البرلمانية والمتنفذين من قادة القوات المسلحة والسائرين في ركابهم.
الحراك ظاهرة نوعية ثمينة وغير مسبوقة في تاريخ لبنان السياسي، يقتضي اغتنامها والإفادة منها على جميع المستويات
حسناً، كيف يجري إسقاط النظام المقيت؟ لا جواب محدداً، ذلك أن ما من أحد داخل الحراك، أو على ضفافه تبرّع بفكرةٍ أو طريقة أو آلية لتحقيق الإسقاط المنشود. المنادون بأهدافٍ وطموحات كثر، أما المهتمون باعتماد وسائل وآليات فقلّة.
ثم، كيف تراه يكون النظام البديل من النظام المرذول المراد إسقاطه؟ ثمة تصورات وطروحات لمفكرين ومصلحين من خارج جماهير الحراك. أما بين أهل الحراك، فما من رؤية اتضحت أو مشروع متماسك جرى تظهيره وإعلانه. كل ذلك لأن الحراك، في غالبية جماهيره العفوية والمتحمسة، هو هبّة أو انتفاضة ضد الظلم والفساد والفوضى، وليس حزباً سياسياً أو زمرة انقلابية أو أيديولوجيا مميزة. ومع ذلك يبقى الحراك ظاهرة نوعية ثمينة وغير مسبوقة في تاريخ لبنان السياسي، يقتضي اغتنامها والإفادة منها على جميع المستويات وتوظيفها في العمل من أجل المطلب الأكبر والأعظم وهو، تحقيق نهضة حضارية شاملة في لبنان وسائر دنيا العرب. كيف ؟
إن القياديين المستنيرين والملتزمين قضية النهضة، داخل الحراك وفي محيطه، مدعوون ومطالَبون بجهود استثنائية ومتواصلة، فكرية وميدانية، لهدم بنى نظام المحاصصة الطائفية وثقافته، بغية ازاحته شعبياً وسلمياً من المشهد السياسي والاجتماعي، وإحلال النظام البديل وهو، الدولة المدنية الديمقراطية. ذلك يتطلّب الإيمان بأن التغيّر والتغيير في بلد تعدّدي ـ ولبنان متحد تعددي بامتياز ـ ليس مجرد قرار، بل مسار متدرّج، متعارض مع العنف العسكري أو الإكراه الاهلي، وملتزم الوفاق الوطني الشعبي الواسع، مناخاً وسبيلاً لإنجاز انتقال سلمي من حالٍ سياسية واجتماعية راكدة إلى أخرى مغايرة ومتحركة. في ضوء هذه المقاربة، يجري تطوير الحراك الناشط والمثابر إلى وفاق وطني وشعبي شامل وفاعل، وهادف إلى تحقيق إصلاحات وطموحات نوعية وازنة. لضمان النجاح والإنجاز يقتضي، بادئ الأمر، فهم الواقع السياسي والاجتماعي وموازين القوى السياسية. أن نظرة موضوعية ثاقبة لحاضر المشهد اللبناني السياسي والاجتماعي، تكشف جملة واقعات وتحديات، أبرزها:
* وجود مصالح متضاربة وتطلعات متباينة تتجسد في جماعات وتجمعات مذهبية وسياسية متصارعة توجّهها، في معظمها، ثقافةٌ متجذّرة طابعها تقبّل بل توسّل التدخلات الخارجية.
* وجود عدو ونقيض قومي وحضاري متمثل بكيان صهيوني مدعوم بقوة أمريكية إمبريالية، لها حلفاء ووكلاء إقليميون أقوياء وطامعون، ومتعاملون وزبائن محليون طيّعون.*وجود جماعات وتنظيمات ارتقى بعضها إلى مستوى كيانات لها قدرات وفعاليات وأدوار ذات طابع إقليمي، تتصدّى بقوة ومثابرة ونجاح للقوى الدولية والإقليمية الطامعة بموارد وطاقات طبيعية (نفط وغاز وفوسفات) دفينة وأخرى مستغلَّة في أقطار عربية عدّة.
في موازاة هذه الواقعات والتحديات، تتكشف حقيقة لافتة هي، توزّع اللبنانيين بين تيارين عريضين عابرين للمناطق والطوائف والمشارب:
تيار المحافظين المرتبط مصلحياً بدول الغرب الأوروبي والأمريكي ودول النفط العربية، والمتشّرب ثقافتين متمايزتين: ثقافة الغرب الأوروبي والأمريكي، وثقافة الإسلام المحافظ.
تيار المقاومة المرتبط مصلحياً واستراتيجياً بالدول والكيانات العربية والإقليمية والدولية المعادية للهيمنة الأمريكية، وللاحتلال الصهيوني لفلسطين، والمتأثر بثقافات ثورية في العالم الواسع، وبثقافة الإسلام الراديكالي المقاوم في عالم العرب والمسلمين.
لعلني لا أجافي الحقيقة بالقول، إن كفّة تيار المقاومة تبدو هي الراجحة في ميزان القوى الداخلي، دونما انتقاص من قوة تيار المحافظين ونفوذه وفعاليته.
في ضوء هذه الحقيقة، يُؤمَّل أن تقوم جماهير الحراك الشعبي (ورديفتها القوى الوطنية والتقدمية) بممارسة الضغط الشعبي السلمي في الشارع، على أطراف تيار المحافظين من جهة، ومن جهة أخرى على حلفاء تيار المقاومة المتحفظين داخل أهل النظام ومؤسسات السلطة من أجل التوافق على صيغة سياسية انتقالية لمواجهة التحديات والمخاطر السياسية والاقتصادية الماثلة والمقرونة بضغوط من دول الغرب الأمريكي والأوروبي، وتهديدات عسكرية من الكيان الصهيوني.. صيغة قوامها تأليف حكومة وطنية انتقالية جامعة من قياديين ذوي خبرة واختصاص، بصلاحيات استثنائية (إصدار مراسيم اشتراعية) لتتولى ثلاث مهام رئيسة :
*أولاً، مباشرة تنفيذ الورقة الاقتصادية الإصلاحية، التي كان قد أعلنها رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري قبل أسبوع من استقالته، شرط إفراغها من مشروعات الخصخصة وتضمينها خفض فوائد الدين العام.
*ثانياً، مباشرة عملية متكاملة لاسترداد الأموال العامة المنهوبة، واتخاذ قرارات إجرائية جريئة لإحالة المرتكبين والفاسدين على القضاء.
*ثالثاً، وضع قانون ديمقراطي للانتخابات يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته، على أسس ثلاثة: لبنان دائرة انتخابية واحدة، التمثيل النسبي، والمباشرة في إلغاء الصيغة الطائفية تدريجياً، بتنفيذ المادة 22 من الدستور التي تقضي بانتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي، ومجلس للشيوخ يحصر فيه تمثيل الطوائف، على أن يصار إلى إصداره بمرسوم اشتراعي، وعرضه تالياً على استفتاء شعبي عام لإقراره وإكسابه مشروعية وشرعية، هما بالتأكيد أعلى وأقوى من أيّ مشروعية وشرعية صادرتين عن مجلسِ نوابٍ مشكوك في شرعيته، كونه منتخباً بموجب قانون انتخابات غير دستوري لمخالفته المواد 7 و22 و27 من الدستور، على أن يصار إلى إجراء انتخابات عامة وفق أحكام القانون الجديد، في مهلة أقصاها خمسة أشهر من تاريخ إقراره.
ثمة ثلاث ميزات استراتيجية لعملية تأليف الحكومة الوطنية الانتقالية:
*أولاها، كونها نتاج توافق وطني عام في حدود ما تنتجه الظروف الوطنية الراهنة.
*ثانيتها، إنها تكرّس اعتماد الاستفتاء الشعبي آليةً ديمقراطية منتجة للمشروعية والشرعية والفعالية السياسية.
*ثالثتها، إنها تنجز التغيّر والتغيير النهضويين المنشودين سلمياً وديمقراطياً وعلى نحوٍ يفسح في المجال لبناء مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية.
آن أوان الإقلاع عن المكابرة والمراوغة، والإقدام برفق وجدية على ولوج طريق التغيّر والتغيير النهضويين بلا تردد ودونما إبطاء.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/11/11