الشعب العربي في مواجهة صمت القبور
علي محمد فخرو
إنه صمت أخفتُ من صمت القبور، فيوميا تتحدث وسائل الإعلام الصهيونية عن اتصالات بين هذا المسؤول الصهيوني وتلك الجهة الرسمية العربية، ويوميا تمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي بصور الزائرين الرسميين وغير الرسميين من الشخصيات الصهيونية، لهذا البلد العربي أو ذاك، حيث يزورون المواقع السياحية، ويجوبون الشوارع، ويدخلون دور العبادة، ويجلسون في مقدمة المؤتمرات، ويؤكدون استقبالهم والترحيب بهم من قبل هذا المسؤول العربي أو ذاك النجم الشعبي العربي، ويوميا تتحدث الدوائر الأمريكية الرسمية أو وسائل إعلامها عن قبول بعض القادة العرب حضور اجتماع مشترك مع بعض القادة الصهاينة في واشنطن، من أجل ترتيب هذا الحلف العسكري، أو تلك الاتفاقيات الاقتصادية، أو ذلك التنسيق الأمني الاستخباراتي، مع المؤسسات الصهيونية.
يحدث كل ذلك أمام شعوب عربية تتساءل، باستغراب وغضب وحسرة، مدى صدقية الأخبار التي تسمعها، والصور التي تراها، وتنتظر أن تسمع أو تقرأ تعليقا رسميا عربيا واحدا ينفي، أو يؤكد، أو يستهجن، لكن تلك التساؤلات لا تقابل إلا بصمت القبور وظلامها الداكن.
في الواقع، ليس ذلك بمستغرب.. ليس بمستغرب، بل ومنتظر، من قوى وشخصيات تفشل إبان حملها للمسؤولية فشلا ذريعا، في بناء تنمية إنسانية شاملة، لكن إعلامها لا يتعب عن الحديث عن الإنجازات المتوهمة، وتفرّط في استقلالها الوطني والقومي، لكن إعلامها لا يخجل من اعتبار ذلك واقعية في عالم عولمي، لا مكان فيه لكلمات من مثل الحرية أو الاستقلال، أو حماية الاقتصاد الوطني. وبالطبع فإن وسائل الإعلام الرسمية تلك تغمض أعينها عن رؤية ما تفعله دولة مثل أمريكا، عرابة العولمة وقائدتها، من حماية لاقتصادها ودفاع عن استقلاليتها في اتخاذ القرارات الكبرى، عندما تتعارض مصالحها الوطنية مع متطلبات العولمة التي أسستها ورعتها. إنه الكبرياء الوطني والقومي الأمريكي الذي لا تعيه ولا تشعر به تلك الجهات الإعلامية، التي لا تعرف إلا مدح الدافعين وذم المخالفين، حتى لو كانوا من أشد المحبين لأوطانها وشعوبهم، ومن القابضين على الجمر بصبر وتحمل، حتى تفهم اليأس والشعور بالمذلة والغضب الصامت عند الشعوب، ما عادت تمارسه عقول وقلوب القائمين على ذلك الإعلام. من هنا ترديد الناس في مجالسهم الخاصة والعامة، بأن السكوت هذا، والصمت المريب ذاك، هما علامة الرضى والمباركة، والتمني التي تقبع وراء الأقنعة السياسية التي تتميز بها مجتمعات بلاد العرب.
التاريخ مليء بأنواع كثيرة من أنظمة حكم، حتى لو لم تستند إلى شرعية تعاقدية ديمقراطية واضحة لكنها تميزت بحد أدنى من وخز ضمير إنساني مستيقظ
هل يستغرب، إذن، المسؤولون العرب عندما يصل شباب وشابات بلدانهم إلى أقصى حالات التطرف في شعاراتهم وتحركاتهم الصاخبة المليئة بألف مأساة ومأساة؟ فهولاء لا يرون برلمانات تناقش بحرية وصدق، أو تعترض بموقف رجولي غير انتهازي، وهم لا يستطيعون أن يكونوا صادقين مع النفس عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة لهم، إلا ومصيرهم السجن والنفي والتهميش، وفقدان الوظائف ورؤية دموع أهاليهم ومحبيهم، وهم لا يجدون، إلا في ما ندر، إعلاماُ مستقلا نزيها يعبر عن آلامهم وأحلامهم وتطلعات مستقبلهم، وهم لا يسمعون من المسؤولين إلا غمغمات التطمين والوعود المؤقته المسكنة المخدرة.
عند ذاك، وكما الحال مع المريض النفسي المتوجع اليائس، يفضلون الموت على يد المليشيات والأمن المجنون والمندسين، على العيش في حالات اليأس والقنوط، وقلة الحيلة والتسكع في الشوارع، والخجل من أهليهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم. لا يستطيع الإنسان أن يفهم غياب الوعي الإنساني المتعاطف المتفهم، عند الكثير من المسؤولين والأنظمة. نقول غياب الوعي، تجنبا للاتهام أو الشتم، أو قراءة النيات. والصمت الذي تمارسه بعض الشخصيات وبعض قوى الحكم هو أقصى غياب لذلك الوعي.
فالتاريخ مليء بأنواع كثيرة من أنظمة حكم، حتى لو لم تستند إلى شرعية تعاقدية ديمقراطية واضحة مقبولة، لكنها تميزت بعقل واعٍ متوازن، وبحد أدني من وخز ضمير إنساني مستيقظ. نحن لا نطلب الكثير عندما نطالب بأن تحترم الشعوب، وعلى الأخص شبابها وشاباتها، على الأقل من خلال الإجابة على تساؤلاتها، والصدق معها، وتجنب الغمغمة البليدة عند التخاطب معها. فالشعوب أذكى كثيرا مما تتصورون.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/12/19