الهدنة الملغّمة في ليبيا: مسارات وتساؤلات
عبدالله السناوي
لم يكن هناك نجاحٌ في قمة برلين يخترق الأزمة الليبية بخريطة طريق سياسية لها آليات معلنة وجداول زمنية ملزمة. ومع ذلك، يصعب وصفها بـ«الفاشلة». بدا أن هناك شيئاً من الحذر والتحسّب من أن تفلت مشاحنات النفوذ والمصالح بين اللاعبين الدوليين والإقليميين، إلى مواجهات بالسلاح في الصحارى الليبية، أو أن تتحوّل ليبيا إلى سوريا أخرى، كما قيل وتردّد في برلين.
مخرجات القمة لخصت ما يمكن التوافق عليه بين الحسابات المتعارضة، بينما لم يتنازل أي طرف عن أيّ من مطالبه، ولا جرت تفاهمات تتجاوز الكلام العام عن استبعاد الحل العسكري وإعلان هدنة ملغّمة باحتمالات تقويضها، كأنها مهلة للتسليح والتدريب وجلب الرجال قبل استئناف القتال. كلّ شيء مرهون بما قد يحدث على الأرض وفي الكواليس، من ضربات تحت الحزام وفوقه وصفقات فوق المائدة وتحتها.
بحسب تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقد حصلت هذه الأخيرة على تعهّدات من الأطراف المشاركة في القمة، بعدم تقديم أي سلاح للأطراف المتقاتلة. ولكن، هل هذه التعهدات قابلة للتنفيذ؟ هذا سؤال أول. فالكلام لا يرتّب شيئاً، ولا يلزم أحداً باحترامه، إذا لم تكن هناك آليات للمراقبة.
وما مصير المذكرة الأمنية الموقّعة بين رئيس حكومة «الوفاق» فايز السراج والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي تجيز التدخّل العسكري المباشر؟ هذا سؤال ثانٍ. ففيما هو مُعلن، يبدو أردوغان أقرب إلى الإحجام عن أي تدخّل عسكري مباشر، خشية التورّط في المستنقع الليبي من دون أيّ غطاء دولي، فضلاً عن حجم الانتقادات الداخلية في بلاده. ولكن لم يصدر عنه أي تصريح يفيد بأنه سوف يتوقف عن إمداد الميليشيات المتمركزة في طرابلس بالسلاح والمستشارين والخبراء العسكريين، أو يمتنع عن إرسال مرتزقة مسلّحين من سوريا إلى ميادين المواجهة.
بطبائع الأمور، من المرجّح في المقابل أن تصعّد الأطراف الأخرى في الصراع من مستوى دعمها العسكري للجيش الوطني الليبي، الذي يقوده المشير خليفة حفتر. ثمّ، هل بوسع المباحثات المقترحة في جنيف بين طرفي الصراع، أن تتوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار؟ هذا سؤال ثالث يكاد يلخّص بحساباته تعقيدات الموقف العسكري. فميليشيات السرّاج تلحّ على وقف إطلاق النار وانسحاب قوات حفتر إلى مواقعها القديمة، قبل بدء الهجوم على العاصمة طرابلس، فيما تدعو موازين القوى الحالية حفتر إلى الحسم العسكري، بعدما توغّلت قواته في بعض أحياء العاصمة، وسيطرت بسهولة مفاجئة على مدينة سرت الاستراتيجية. في المقابل، تطلب قوات حفتر تفكيك الميليشيات، وهذا طلب يستحيل أن يتقبله الطرف الآخر، ذلك أنه سيشكّل إعلاناً نهائياً عن الهزيمة.
بتعبير المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، فإنه يتوافر لديه الآن مفتاح للأزمة، غير أن الأبواب المغلقة بمتاريس يصعب فتحها بمفتاح! إذاً، وفق اليقين، هناك شيء ما تحرّك في برلين خطوة إلى الأمام، لكنّه أقل بكثير من حجم المشكلة وتعقيداتها. فأسوأ ما حدث في برلين، غياب الليبيين عن قمة تناقش مصير ليبيا ومستقبلها، الأمر الذي كان تعبيراً عن حجم التدخّل الدولي والإقليمي، وعن قدرِ ما أصاب ليبيا من ضررٍ في تمثيلها السياسي.
لا السراج يمثّل شرعية حقيقية، فأساس شرعيّته اتفاق «الصخيرات» الذي وُقّع في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 تقوّض بالكامل، ولم يتبقَّ منه سوى أشلاء نصوص، بينما المغرب التي حضنته استُبعدت من قمّة برلين فغضبت، كما دول أخرى في الجوار أُهملت دعوتها حتى وقت متأخر، كتونس، فاعتذرت، أو استُبعدت بالكامل، كالسودان، فاستنكرت. ولا حفتر يمثّل قوة سياسية لديها مشروع متماسك، ذلك أن دوره العسكري استقطب قطاعات واسعة في بلاده من دون أن يبلورها في رؤى وتصوّرات، لإعادة بناء ليبيا من جديد بما يضمن وحدتها ومدنية نظامها السياسي وديمقراطيتها.
غياب الليبيين، انتقاصٌ فادحٌ من شرعية مخرجات قمة برلين. وهذه حقيقة لا يقلّل منها ما أدارته ميركل من مباحثات منفصلة مع حفتر والسراج في دار المستشارية. لم يلتقِ هذان الاثنان، أو يحضرا أعمال القمة، لكأنّ هناك من يحارب بالنيابة ويفاوض بالنيابة!
وقد حدث سيناريو مشابه في موسكو، حيث أُجريت مفاوضات غير مباشرة مع الخصمَين الليبيين بمبادرة مشتركة من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، انتهت إلى الفشل الذريع بممانعة من حفتر، الرقم الصعب في المعادلة الليبية. إلا أن برلين شهدت مقاربة واقعية لحسابات القوى، على أمل حلحلتها بخطوات لاحقة تتبنّاها الأمم المتحدة في جنيف، أو عبر ممثلها شبه المكبّل.
ولكن بتعبير آخر صادر عن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، فإن «الحروب بالوكالة تنتهي عندما يقرّر الوكلاء الخارجيون أنهم يريدون وضع حدّ لها»، وهي حقيقة صادمة في الأوضاع الليبية المعقّدة، جرى تصميم قمة برلين على أساسها.
روسيا التي أثبتت تعاظم حضورها في معادلات الإقليم، تحاول أن تمسك بخيوط اللعبة وتدير توازناتها، وفق مصالحها الاستراتيجية شرق المتوسط والامتيازات في النفط والغاز التي تسعى إليها. وقد تماشت مع ضغوط أردوغان في طلب الهدنة في طرابلس وإدلب، حتى لا تفقد الورقة التركية الاستراتيجية، لكنها لم تُظهر التزاماً حقيقياً في الحالتين، فهناك حسابات وأوراق أخرى لا ترغب في خسارتها. أما دول الاتحاد الأوروبي، على اختلاف أدوارها ومصالحها، فقد ارتفع مستوى حضورها في قمة برلين، والتزمت المبادئ العامة خشية أن يؤدي الاقتراب من التفاصيل إلى انهيارها، كما أشارت إلى مواضع الخلل في الأداء التركي في الجلسات الجانبية من دون مواجهة حقيقية. والولايات المتحدة حضرت القمة بتمثيل أقلّ من الرئاسي، إذ غاب دونالد ترامب وحضر وزير خارجيته مايك بومبيو، الذي اكتسبت تصريحاته قيمتها من وزن بلاده لا من وضوح سياساتها في الأزمة الليبية، التي انطوت على تناقضات والتباسات يصعب فكّ ألغازها في الموقف من حفتر، الذي تدعمه مرّة في سعيه إلى حسم الصراع بقوة السلاح، ومرة أخرى تدعوه إلى وقف هجومه على طرابلس بحسابات أخرى مع أنقرة.
في الحسابات الدولية المتعارضة، تكتسب الصادرات النفطية سلّم الأولويات في النظر إلى الأزمة، وقد يمثّل قرار وقف نقل النفط بموجب حالة القوة القاهرة عبر الموانئ الليبية، التي يسيطر عليها الجيش الوطني الليبي، أهم اختبار ممكن لمخرجات برلين. هذا إضافة إلى أن توزيع عوائد النفط، يفتقد إلى قواعد العدالة بين المناطق الليبية المختلفة، بينما يُستخدم بعضها لتسليح الميليشيات. من هنا، فإن أزمة نقل النفط تطرح نفسها بإلحاح على جدول أعمال ما بعد برلين، بالقدر ذاته الذي تطرحه إمدادات السلاح وخرق الهدنة من وقت إلى آخر.
وفي المحصّلة، يمكن القول إنه إذا لم يكن هناك دخول إلى المناطق الشائكة في الأزمة الليبية، يصعب أي حديث عن أفق سياسي يضع حدّاً لمعاناة مواطنيها، وهذا ما عجزت عنه أعمال القمة.
صحيفة الاخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/01/23