الأمم المتحدة نحو مزيد من الابتزاز في سورية؟
د. وفيق إبراهيم
الأمم المتحدة منظمة تأسست بعد الحرب العالمية الثانية للإشراف على الاستقرار العالمي بتنظيم العلاقات بين الدول، أما على المستوى العملي فلا تفعل إلا تعميم النفوذ الأميركي – الغربي والتمهيد لمسالكه في سياسات الدول. فتنحاز اليه دائماً في إطار من الحيادية الشكل التي تتباكى في الظاهر على حقوق الإنسان وتناصر بلداناً ذبحت مئات الملايين من البشر.
وقد تجد نفسها مضطرة الى اسلوب «المراعاة» لاحتواء التطورات المستجدة في موازين القوى.
تنطبق هذه التعريفات على علاقاتها بالأزمة السورية فنراها تهبّ حيناً لإدارة مفاوضات بين أطرافها وسرعان ما تذهب في غيبوبة طارئة لبضعة أشهر حتى يتضح ان ما يجري ليس إلا ضرورة اميركية تتطلب تأجيلاً لترقب تقدم عسكري تركي أو إرهابي او أميركي – تحالف دولي حسب التطورات المتسارعة.
الدليل على ذلك واضح في اللقاءات الأخيرة في تشرين الثاني 2019 لمفاوضات آستانة بين الدولة السورية والمعارضة بإشراف الأمم المتحدة.
لقد تعطلت اللقاءات بعد تعنّت من المعارضة التي أصرّت على تعطيل صلاحيات الدولة السورية. ما شكل حجة لها للانسحاب بحيادية أممية مشبوهة.
وتبين أن الأميركيين كانوا يريدون في حينه تفجير العلاقات التركية – الروسية – الإيرانية الضامنة لمؤتمر سوتشي وآستانا.
وفجأة عادت الامم المتحدة الى مزاولة نشاطها من خلال مفاوضات سوتشي وآستانا. فها هو المبعوث الأممي الى سورية غير بدرسون يصل في اليومين المقبلين إلى دمشق في محاولة لإعادة ترتيب لقاءات سوتشي بين الدولة والمعارضة.
فهل لديه مستجدات سياسية خاصة بالمعارضة تتيح إعادة تنشيط آستانا؟ وعقد لقاءاتها؟ فالدولة السورية راسخة على موقفها في إعادة تحرير كامل بلدها بالحرب او السياسة وعلى قاعدة السيادة الوطنية الكاملة هذا الى جانب التزامها بتحسينات في القواعد الدستورية الضرورية لمشاركة شعبية اوسع في إدارة الدولة. وهذا ما تتطلبه الضرورات الداخلية والخارجية في آن معاً، على قاعدة التطوير الدائم.
لا بدّ هنا من ربط عودة غير بدرسون بمستجدات عدة انبثقت في الشهرين الماضيين. وعندها يمكن للمتابعين اكتشاف مدى الترابط بين الرغبات الاميركية، وحركة الامم المتحدة.
اولاً: تقدّم الجيش السوري بشكل مباغت في الكثير من المواقع شرقي الفرات، ملتهماً مواقع من ثلاث قوى، الاحتلال التركي وقوى الإرهاب وقسد الكردية، ومقلصاً حركة القوات الأميركية وحلفائها في التحالف الدولي.
لقد جاء هذا التقدم ثمرة تفاهم سوري – روسي نجح في إجهاض حركتين هما مشروع الاجتياح التركي بعمق ثلاثين كيلومتراً، ومشروع دويلة مستقلة للأكراد حسب المخطط الاميركي.
لجهة المستجدّ الثاني فهو تقدّم الجيش العربي السوري في معظم أرياف حلب ونجاحه في دحر إرهابيين مدعومين من تركيا والخليج، بغض نظر أميركي. وبدا واضحاً أن السوريين يريدون وصل حلب باللاذقية عبر إدلب وربطها أيضاً بحماه وحمص ودمشق. وهم ينجحون بذلك تدريجياً، للتذكير فقط يجب الانتباه الى عودة الإعلام الغربي والخليجي والتركي إلى التباكي على «المدنيين» ويقدّمونهم على أنهم ضحايا القصف السوري الروسي، ليتبين آنفاً أن معظم القتلى هم مدنيّون سوريون سقطوا بقصف إرهابي استهدف مناطقهم الواقعة تحت سيادة الدولة.
هناك أيضاً ما يمكن اعتباره من المعوقات الأساسية وهي التي يقوم بها الأميركيون في شرقي الفرات لناحية العرقلة المتعمدة لحركة الجيش الروسي فيها، فيتعمد الأميركيون التموضع في مناطق تصيب تمدّد الروس بشلل مع تعمّد اختلاق مناوشات جوية بين قاذفاتها في أجواء الشرق السوري وحلب وإدلب.
الامر الذي يميط اللثام عن مدى الانزعاج الاميركي التركي من التمدد السوري الروسي، الى أن بدأ الهجوم السوري على منطقة إدلب، بعد سلسلة هجمات إرهابية كانت تريد إجهاض تقدم الجيش السوري بشكل مسبق.
لكن نجاح السوريين بتحرير عشرات القرى والمدن وصولاً الى «معرة النعمان» التي يتخذها الإرهاب المدعوم تركياً قاعدة لسيطرته على إدلب، جعلت كل تلك المنظومة الغربية ترفع الصوت بتحذير الدولة السورية من خطورة قتل المدنيين وتدمير القرى.
للتذكير، فإن هذه المدينة التي يسيطر عليها إرهابيون مدعومون من تركيا بموافقة غربية هي آخر معقل رئيسي خارج عن سلطة الدولة وتشكل استعادته إمساكاً كاملاً للدولة بكل المواقع الأساسية على طول الجغرافيا السورية.
هذا هو الحدّ الذي تمكّنت الأمم المتحدة من التزام الصمت فيه، لكنها وبمواكبة حملات إعلامية غربية وخليجية تنشر الذعر «الكاذب» خوفاً على المدنيين هبّت مجدداً وزعم الأمين العام لهذه المنظمة انطونيو غوتيريس أن منظمته حريصة على المدنيين داعياً دمشق الى التوقف عن الهجمات والمضي نحو حلّ سياسي، وإلا «فإن الدول المانحة لن تدعم عملية إعادة إعمار سورية».
وهذا يشكل عودة أسلوب ابتزاز تحترفه هذه المنظمات الدولية بإيحاء أميركي، وإلا كيف يمكن فهم إصرار الامم المتحدة على منع النازحين السوريين من العودة الى الأنحاء الآمنة من بلادهم؟ وكيف يجوز تفسير تباكي هذه المنظمة والغرب عموماً على مصير المواطنين مما تسمّيه بالقصف الروسي السوري، علماً أن هؤلاء السوريين يخضعون لسلطة إرهاب داعشي وتركي من الاخوان والنصرة وهم أسرى للإرهاب يحتمي بهم لمنع تحرير هذه المناطق.
لذلك لجأت «منظمة غوتيريس» الى روسيا لتكليفها بوساطة مع دمشق لإعادة إحياء مفاوضات آستانا وإيقاف عمليات التحرير؛ وها هو غير بدرسون يحمل الى السوريين مشروع العودة إلى المفاوضات مقابل وقف الهجوم العسكري.
فهل تستجيب الدولة السورية؟
إن القيادة السورية حريصة على مواطنيها، لكنها تعرف أنهم ضحايا إرهاب يسيطر عليهم بالتجويع والقتل، وهم أيضاً ضحايا سياسات أميركية خليجية تركية تستثمر فيهم لتحسين سياساتها، لذلك فتحت الدولة السورية بالاتفاق مع روسيا ثلاثة معابر تسمح بانتقال السوريين من أسر الإرهاب الى المناطق المحررة.
وهذا لن يمنع من موافقة دمشق على إحياء سوتشي وآستانا وبشكل لا يوقف عمليات التحرير التي تستمر وفقاً لخطة تحريرية تدريجية وضعتها الدولة السورية استناداً لمصالح السوريين، وليس خضوعاً للابتزاز الأميركي والتركي وممثلهما انطونيو غوتيريس وغير بدرسون.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/01/27