وحدة الموقف الفلسطيني أفشلت خطة ترامب
د. سعيد الشهابي
الرئيس الأمريكي يحلم كثيرا، ويتطلع لأن يسجل اسمه في سجل العظماء من الرجال والزعماء، ويظن أن قراراته ستتحول الى قوانين ملزمة للعالم، لذلك طرح مشروعه الكارثي الأخير حول القضية الفلسطينية. إنه مشروع لا يحمل مقومات النجاح او البقاء، بل ولد ميتا. فالعالم يدرك أن اية مبادرة لحل الخلاف بين طرفين يجب أن تحظى بموافقتهما، والا فلا مجال لحل توافقي بينهما. فان أصر الراعي على فرض تصوره لحل النزاع، فانه يصبح طرفا وليس راعيا لحله. كافة الفلسطينيين، بدون استثناء، أعلنوا رفضا مطلقا لما أسمته واشنطن «صفقة القرن» واعتبروه «لعنة» او «صفعة» ورفضوه جملة وتفصيلا.
والواضح أن ترامب لم يتعلم من دروس التاريخ الماضي والحديث، ويعتقد أن القوة المادية والسياسية وحدها قادرة على حسم الصراعات خارج أطر العدالة ومنطق التراضي. فمشروعه يطالب الفلسطينيين بأمور عديدة لا يستطيع أحد منهم اقرارها: الاول: التخلي عن أرض فلسطين التي مضى سبعة عقود على نضال أهلها من اجل تحريرها. ثانيا: الاعتراف بكيان الاحتلال بدون قيد او شرط، ثالثا: تجاهل القرارات الدولية التي صدرت منذ التقسيم وفي مقدمتها 242 و 338 والانصياع لقرارات ترامب وحده. رابعا: اقرار القرارات الأمريكية الأخيرة بما في ذلك اعتبار القدس كاملة عاصمة لـ «إسرائيل» والاعتراف بشرعية ضم الجولان لهذا الكيان واقرار المستوطنات التي بناها الإسرائيليون في الضفة الغربية وقضمت ثلث مساحتها، والقبول بسيادة الكيان الإسرائيلي على غور الأردن ليكون فاصلا بين الضفة والأردن. خامسا: القبول بحكم ذاتي محدود على أراض متفرقة داخل كيان الاحتلال سادسا: التخلي عن مبدأ السيادة الفلسطينية حتى على الأراضي المحدودة التي حددها ترامب لهم، واقرار السيادة الإسرائيلية على كافة أراضي فلسطين المحتلة، والاعتماد على «إسرائيل» في الشؤون الدفاعية والأمنية والعلاقات الخارجية. سابعا: التخلي عن مبدأ حق عودة الفلسطينيين الذين هجرهم الاحتلال الى ديارهم، مع اقرار مبدأ تجنيس واستيطان اراضيهم من قبل الأجانب الذين تستقدمهم «إسرائيل». ثامنا: القبول بمبدأ مقايضة الارض مقابل المال (50 مليارا ستدفعها السعودية والامارات بأمر امريكي).
إنها حقا «صفعة القرن» كما اطلق عليها الزعماء الفلسطينيون ومنهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي رفض، هو الآخر، المشروع الأمريكي وتعهد بمواجهته سياسيا ودبلوماسيا ومن خلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. وهنا يسجل للفلسطينيين موقفهم الرافض لجريمة الاعتراف بالاحتلال واقرار جرائم التهجير والتهويد والاستئصال والتوطين ورفض القرارات الدولية واستبدالها بقرارات أمريكية جائرة. الرئيس الأمريكي تجاهل حقائق عديدة من بينها ما يلي: ان الشعب الفلسطيني الذي رفض الاحتلال لن يقبل به يوما. ثانيا: ان احتلال فلسطين كان جريمة تاريخية بحق الفلسطينيين تواطأ فيها الغرب بشكل مباشر. فقد اضطهد اليهود على نطاق واسع وسعى للتخلص منهم بمنحهم أراضي الغير، حتى قيل انه «وهب ما لا يملك لمن لا يستحق». فما شأن الفلسطينيين بما جرى لليهود خلال الحرب العالمية الثانية؟ ولماذا يدفع العرب والمسلمون الذين طالما تعايش اليهود آمنين تحت حكمهم قرونا، ثمن خطايا الغرب وجرائمه؟
ترامب يسعى لتجاوز منطق الحوار والتفاوض ليفرض الاحتلال الإسرائيلي كواقع مدعوم بالقوة العسكرية والسياسية والاقتصادية الأمريكية، مستغلا حالة الاستسلام والخنوع التي عششت لدى بعض الأنظمة العربية
كان الأولى بالرئيس الأمريكي أن يعيد قراءة تطورات القضية خلال النصف الثاني من عمرها على الأقل. وبرغم رفض العرب والمسلمين للاتفاقات التي ابرمت سابقا بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال، الا ان العالم كان يدفع دائما باتجاه التفاوض وليس فرض الأمر الواقع. فكافأ انور السادات ومناحيم بيغين بجائزة نوبل وكافأ المرحوم ياسر عرفات وكلا من شمعون بيريز واسحاق رابين على ما اعتبره «مبادرات سلام» نجم عنها اتفاقات كامب ديفيد واوسلو، ومن نتائجها قيام السلطة الفلسطينية الحالية. الموقف الدولي كان يهدف لتشجيع مبادرات السلام القائمة على التفاوض بدون استخدام القوة لفرض الأمر الواقع. أما ترامب فيسعى لتجاوز منطق الحوار والتفاوض ليفرض الاحتلال الإسرائيلي كواقع مدعوم بالقوة العسكرية والسياسية والاقتصادية الأمريكية، مستغلا حالة الاستسلام والخنوع التي عششت لدى بعض الأنظمة العربية. لقد كان مخزيا حضور بعض سفراء الدول العربية ومنهم البحرين والإمارات لحظة اعلان ترامب، وبجانبه بنيامين نتنياهو، اطلاق «صفقة القرن» في واشنطن الاسبوع الماضي. فقد كانت قلوب الملايين من العرب والمسلمين والمناضلين من اجل الحرية تتألم وهي ترى الصفاقة الأمريكية غير المحدودة والعجز الدولي المهين. مع ذلك كان هناك بضعة أنظمة عربية مستعدة للتسابق من أجل كسب ود المحتلين على حساب كافة ابناء الامة.
ويضاف لذلك الخزي كذلك إعلان بعض الحكومات العربية «تقديرها» الولايات المتحدة لسعيها لحل القضية الفلسطينية وفق أجندتها التي فرضها اللوبي الصهيوني في أمريكا بدفع من اليمين المتطرف الإسرائيلي. لم تكن هناك ضرورة ابدا للتعبير عن اي تقدير لسياسات ترامب التي تهدد أمن العالم وتقربه من الحرب وتعمق التوتر في كافة أرجائه.
لم ينس ترامب وهو يعلن مشروعه أن يشير الى ما قام به من دعم مباشر وعلني للكيان الإسرائيلي. فقالها بصوت عال، يتحدى فيه أصحاب الضمائر والإنسانية: أنا الذي قمت بنقل سفارتنا الى القدس، أنا الذي أقررت ضم الجولان والأراضي التي بنيت عليها المستوطنات الى «إسرائيل». أنا الذي سحبت الولايات المتحدة من القرار النووي الإيراني. كان واضحا في كلامه وموقفه، فلم يعر أي اهتمام لاي موقف مغاير. ومن المؤكد انه لم يكن ليعلن مواقفه هذه وسياساته لو اعتقد ان الحكومات العربية ستقف ضد قراراته. فقد شاهد بعينيه حضور بعض السفراء ساعة اعلانه مشروعه «صفقة القرن»، وبعض هؤلاء لم يتردد في التقاط صور مع مسؤولين من الكيان الإسرائيلي. وتبع ذلك صدور بيانات من حكومات عربية عديدة تعبر عن تقدير لما تعتبره «جهودا امريكية لحل القضية الفلسطينية». كانت الشعوب تتوقع صدور مواقف مغايرة تماما، تشجب المشروع وتنأى بنفسها عنه، وتؤكد تمسكها بالقرارات الدولية، وتعلن دعمها قوى المقاومة التي تهدف لتحرير فلسطين. وعندما قال ترامب «إن هناك دعما عربيا» لمشروعه ساد الاعتقاد بعدم صحة ذلك الادعاء، ولكن صدور بيانات دول عديدة من المغرب الى الكويت والسعودية كشف أنه كان على علم بمواقفها قبل اعلان مشروعه رسميا. لقد مضى اكثر من عامين على الحديث عن صفقة القرن، ولم تعلن التحالفات الخاضعة للهيمنة السعودية مثل الجامعة العربية او منظمة التعاون الاسلامي او مجلس التعاون الخليجي موقفا متحديا او مغايرا لما احتوته تلك الخطة. وقد طرحت خلال الأسبوع الاخير تحليلات غربية لتلك المواقف، وثمة ما يشبه الاجماع على ان بعض الدول العربية يفضل التطبيع مع «إسرائيل» ومسايرة المشروع الامريكي على التقارب مع إيران. وتقود السعودية هذا التوجه الذي يساوم على فلسطين من أجل تحقيق أهداف سياسية محدودة، وضمان شيء من السيادة على القرار العربي والإسلامي. إنها واحدة من أكثر الحقب التاريخية إيلاما وأشدها وقعا على النفس وتحديا للمشاعر، وتعبيرا عن سقوط قيمي واخلاقي وسياسي يكرس تراجع الامة وتهميشها ومنع نهوضها. فالنهضة هنا مشروطة بالالتفاف حول قضية محورية. وعلى مدى العقود السبعة الماضية كانت فلسطين هي محور الالتقاء العربي والاسلامي. واستمر ذلك حتى تراجع بعض الحكام عن موقفه، وتغيرت موازين القوى في العالم العربي لغير صالح قوى التحرر.
إنه صراع اجيال متعاقبة وسوف يستمر عنوانا للظلامة ومصدرا للوعي ومشروعا ليس لتحرير فلسطين فحسب بل تحرير الأمة كلها من عقلية التبعية والتقسيم والقبول بالارتهان للأجنبي والاصطفاف مع العدو ضد الصديق.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/02/03