صفقة القرن… والحلم الصهيونيّ المزعوم!
د. محمد سيّد أحمد
ليست المرة الأولى التي نكتب فيها عن صفقة القرن، وليست المرة الأولى أيضاً التي نكتب فيها عن الحلم الصهيوني، فقد كتبنا كثيراً وتحدّثنا طويلاً عبر شاشات الفضائيات التي يسمح لنا بالظهور عليها، وغالبيتها تنتمي للإعلام الوطني أو الإعلام المقاوم، وخلال الأسبوع الفائت كنتُ ضيفاً دائماً على عدد من الشاشات للحديث عن صفقة القرن المزعومة سواء قبل إعلان ترامب ونتنياهو عنها أو بعد إعلانهما، وعلى عكس غالبية المحللين السياسيين الذين تناولوا الحدث كنت أذهب دائماً بعيداً في محاولة تقديم قراءة مختلفة للحدث، حيث اعتبرت ما يُطلق عليه صفقة القرن هو جزء من الحلم الصهيوني الذي بدأ منذ أكثر من قرن من الزمان، وما يتمّ اليوم هو استمرار لمحاولات العدو الصهيونيّ في تحقيق حلمه المزعوم بدولة تمتدّ من الفرات إلى النيل، وهي العبارة المدوّنة فوق باب الكنيست الإسرائيلية، ويتجاهلها للأسف الشديد الرأي العام العربي المغيّب دائماً.
وإذا عدنا للبدايات، فسوف نكتشف أنه منذ أصبح العدو الصهيوني واقعاً على الأرض العربية في فلسطين والأمة العربية مفكّكة ومفتتة ومحتلة، وعندما أعلن العدو عن دولته المزعومة تحرّكت الجيوش العربية بدعوى الدفاع عن الأرض المغتصبة، لكنها وللأسف الشديد نالت هزيمة منكرة في حرب 1948، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة العربية. فالشعب العربي أصبح مهموماً بإنتاج قيادة عربية قوية ومؤمنة بالمشروع القوميّ العربيّ لتحرير فلسطين عبر جيش قويّ يمكنه دخول الحرب والانتصار فيها، ومنذ اللحظة الأولى لإعلان الكيان الصهيونيّ أكد مؤسّسه ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء «أنّ إسرائيل لا يمكن أن تعيش وتحيا آمنة إلا بالقضاء على ثلاثة جيوش عربية هي الجيش المصري والعراقي والسوري». ومن هنا ندرك مدى وعي العدو وقياداته مشروعَهم المضادّ.
وحين أفرز الواقع العربيّ هذه القيادة المؤمنة بمشروع الوحدة لمواجهة العدو الصهيوني وهو الزعيم جمال عبد الناصر، بدأ العدو في التخطيط لمواجهته وإجهاض مشروعه الوحدوي بكافة الوسائل والطرق وكانت إحد أهمّ الآليات هي التحالف مع الرجعيّة العربية لضرب المشروع من الداخل، ثم محاولة جرجرة الجيوش العربية لخوض حروب وهي غير جاهزة لخوضها، فكانت النتائج مزيداً من الاستنزاف للجيوش ومزيداً من الانتصارات للعدو وكسب أرض جديدة تضمّ إلى الأراضي العربية المحتلة، وعندما نجحنا في المواجهة العسكريّة في أكتوبر/ تشرين الأول 1973 قام العدو باستخدام آلية جديدة للتفرقة والتقسيم والتفتيت وهي معاهدات السلام المزعومة التي بدأت بكامب ديفيد، ثم أوسلو، ثم وادي عربة.
وإذا كانت مقولة ديفيد بن غوريون يتمّ العمل عليها منذ قام بإطلاقها، حيث يسعى العدو الصهيوني طوال الوقت لاستهداف الجيوش العربية وسحبها في معارك بعيدة عن المعركة الأساسية معه، فكانت الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات تمّ فيها إنهاك الجيش العراقي بشكل كبير، ثم الغزو العراقي للكويت الذي استنزف جزءاً كبيراً من قوة الجيش العراقي التي انتهت بشكل نهائي بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ثم جاء الربيع العربي المزعوم ليدخل الجيش السوري في معركة كونية مع العصابات الإرهابية المسلحة المدعومة صهيونياً ليستنزف قوته التي كانت مستعدّة لدخول المعركة مع العدو الصهيوني، والأمر نفسه يتمّ مع الجيش المصري الذي يواجه الإرهاب في الداخل وعبر حدوده الشرقية مع العدو الصهيونيّ في سيناء والغربية مع ليبيا والجنوبية مع السودان.
لذلك لا عجب مما يحدث اليوم بإعلان صفقة القرن المزعومة من دون أن يتحرّك ساكن للحكام العرب وأيضاً الشعب العربي باستثناءات رمزية هنا وهناك لا تتجاوز التنديدات الكلامية. وهذه هي المصيبة الأكبر التي أكدت عليها منذ زمن بعيد غولدا مائير رئيسة وزراء العدو الصهيوني في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، حيث قالت «عندما أحرقنا القدس.. لم أنم طيلة الليل وتوقّعت أنّ العرب سيأتون نازحين من كلّ حدب وصوب نحو «إسرائيل».. فعندما بزغ الصباح علمت وأيقنت أننا أمام أمة نائمة». وبالطبع هذا النوم ليس طبيعياً بل بفعل فاعل وهو العدو الصهيوني الذي يتحرّك بوعي تامّ لتمزيق وحدتنا وتشتيت جهودنا واستنزاف جيوشنا، لذلك لا عجب أن تجد بعض المسؤولين الأعراب حاضرين اجتماع إعلان صفقة القرن المزعومة.
ومن خلال نظرة سريعة ومتفحّصة لحصاد الربيع العربي المزعوم يمكننا أن نؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه ربيع عبريّ بامتياز تمكّن من خلاله العدو الصهيوني أن يحقق جزءاً كبيراً من أحلامه وطموحاته أوّلها وأهمّها هو إضعاف الجيوش العربية واستنزافها في صراعات ونزاعات وحروب داخلية خاصة الجيوش الثلاثة التي أشار إليها ديفيد بن غوريون (المصري – العراقي – السوري) وهو ما يعني أنّ «إسرائيل» يمكنها أن تعيش وتحيا آمنة وهو ما جعلها تقوم بتهويد القدس، والاعتداء على الأقصى، ثم إعلانها للقدس عاصمة أبدية لدولتهم المزعومة خلال سنوات الربيع العبري. وأخيراً الإعلان عن «صفقة القرن» المزعومة دون أن يتحرّك ساكن للحكام العرب الذين لا تشغلهم إلا المحافظة على كراسيهم، والشعوب العربية المنهكة بفعل الفقر والجهل والمرض.
وعلى الرغم من الصورة القاتمة بل حالكة السواد التي أوضحتها معركة «صفقة القرن» خلال الأيام الماضية والتي جعلتنا نرى بوضوح حصاد الربيع العبري، إلا أنّ هذه الصورة لم تخلُ من نقطة ضوء تمثلت في نموذج المقاومة الذي يعمل له العدو الصهيوني ألف حساب، لذلك يجب أن تعي الأمة العربية أنّ قوّتها في وحدتها أولاً وفي بندقيتها ومدفعها وجيوشها ثانياً، فما أخذ بالقوة لن يُستردّ إلا بالقوة، فمعركتنا مع هذا العدو الصهيوني معركة وجود وليست حدود، فـ «صفقة القرن» جزء من حلمهم المزعوم دولة من الفرات إلى النيل، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/02/05