انتصار حلب بعشرة
ناصر قنديل
– في الظاهر يبدو انتصار الجيش السوري في أرياف حلب، واحداً من الانتصارات المتدحرجة التي بدأها الجيش السوري منذ تحرير أغلب أجزاء مدينة حلب قبل ثلاثة أعوام وبضعة شهور، لكن التدقيق سيكشف أهمية هذا الانتصار وتميّزه وتأثيره على المناخات السياسية والمعطيات العسكرية وتثبيته قواعدَ ستحكم كثيراً ما بعده.
– انتصر أمن حلب أولاً وقد عانت العاصمة السورية الثانية لسنوات ما بعد التحرير الأول من القصف والاعتداءات اليومية، ونظراً للعمق التركي وراء مناطق سيطرة الجماعات الإرهابية كان التجرؤ أكبر مما كانت تفعله هذه الجماعات في استهداف أمن دمشق من الغوطة قبل تحريرها، ورد الاعتبار لأمن العاصمة الاقتصادية سيكون له مردود كبير على حياة الناس أولاً وعلى النشاط الاقتصادي ثانياً، وبالتالي على مجمل الوضعين الأمني والاقتصادي.
– النصر الثاني هو بفتح الطريق الدولي الذي يشكل شرياناً حيوياً بين العاصمة دمشق وكل من مدينتي حماة وحلب، وبالتالي بين نصف سورية ونصفها الآخر تقريباً، وهذا الربط الذي يختصر الوقت والمخاطرات المرافقين للطريق المؤقت البديل، يعني عودة للحياة الطبيعية سكانياً واقتصادياً وأمنياً، وخصوصاً بعودة نسبة كبيرة من النازحين من أبناء المناطق التي شملها التحرير أو وفّر لها الأمن أو سهل الانتقال إليها، وهي عودة مرتقبة بعشرات الآلاف من أكثر من وجهة نزوح.
– النصر الثالث هو بسقوط آخر واجهات الاحتلال التركي من الميليشيات التي ترفع علماً مزيفاً باسم “الثورة السورية”. والمعلوم أن أرياف حلب كانت المنطقة الجغرافية التي تتمركز فيها هذه الجماعات ضمن تقسيم أدوار بينها وبين جبهة النصرة التي تتولى منطقة إدلب، وفقاً لترتيبات القيادة التركية، وسقوط آخر معاقل هذه الواجهات التي كانت تستعمل العلم السوري وتسعى لتغطية الاحتلال التركي بواجهة سورية، لا يعني فقط أن الاحتلال صار عارياً فقط، بل أيضاً سيكون له تأثير على مسار العملية السياسية وعمل اللجنة الدستورية، حيث كان بعض رموز ما يُسمّى بالمعارضة يستند لهذا الوجود في رفع السقوف وممارسة التعطيل.
– النصر الرابع هو في كون ما تبقى من معاقل للجماعات الإرهابية بات تحت وطأة مفاعيل النصر السريع للجيش السوري، في حال انهزام وتفكك وضياع، وسيكون لهذا النصر تأثيره في رسم إيقاع المواجهات اللاحقة بعدما تم تفكيك وإنهاء بنى وهياكل تحتل مناطق تقارب بحجمها المناطق المتبقية تحت سيطرة جماعات النصرة، وتضم بين صفوفها أعداداً من المسلحين تقارب عدد من بقوا في المناطق التي يستهدفها التحرير اللاحق.
– النصر الخامس هو بتثبيت معادلة العلاقة بروسيا وإيران، كحليفين لسورية، لحقت بالعلاقة بينهما وبين سورية حملات تشكيك ومحاولات نيل من المصداقية، وكانت أصعبها هذه المرة لخصوصية المناطق التي تدور فيها المعارك وموقعها المصيري بالنسبة للدور التركي، وما قالته توقعات أصحاب حملات التشكيك بأن ما كان يصحّ في التزام روسيا وإيران قبل إدلب وريفها وريف حلب لا يصحّ الآن، وقد بدأت أم المعارك. وجاءت النتائج لتقول إن ما يصحّ في فهم الحلف المبني على المصداقية هو قانون لا استثناءات فيه.
– النصر السادس هو بالرسالة التي وجّهتها العملية للقيادات الكردية، التي كان بعضها يراهن على ثبات كانتون تفرضه تركيا لجماعاتها في ريفي حلب الغربي والشمالي لأهميته وحيويته على حدودها، وأنه سيكون ذلك فرصة لطلب المثل. وجاء النصر يسقط هذه الفرضية ويسقط معها المعوقات أمام التفكير العقلاني الذي يشكل شرطاً لنجاح الحل السياسي مع هذه الجماعات.
– النصر السابع هو في تثبيت قواعد حاسمة لمفهوم السيادة في العلاقة السورية التركية، التي دخلت عليها بعض الأوهام لدى القيادة التركية، من نوع التلويح بالاستنجاد بالأطلسي أو بابتزاز الحليفين الروسي والإيراني، أو بالرهان على التهويل والترهيب بفرضية الحرب المباشرة بين الجيشين السوري والتركي، وكلها اختبارات جدّيّة وقاسية خاضتها القيادة السورية وفاز بها الرئيس بشار الأسد وأثبت الجيش السوري أهليته لتخطّيها، وباتت الحقائق التي قالتها معارك حلب خصوصاً حاكمة لمضامين لاحقة للعلاقة بين سورية وتركيا، عنوانها أن السيادة السورية خط أحمر.
– النصر الثامن هو في تأثير معركة حلب الحاسمة على مستقبل الحسابات الإسرائيلية التي كانت تبني على ثبات تركيا ومَن معها من جماعات إرهابية ومن جهّزتهم من جماعات تحت مسمّى المعارضة، حسابات تفترض أن استعادة سورية وحدتها تحت سيادة جيشها أمر دونه الكثير، وبالتالي فالتعامل مع ما تسمّيه “إسرائيل” بالفوضى السورية مستمرّ لأجل بعيد. وجاء النصر ينبؤها بالعكس ويفرض عليها حسابات من نوع مختلف فقريباً ستكون سورية متفرّغة للتعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية، وقد استعادت وحدتها وسيادتها وعافيتها.
– النصر التاسع هو في تأثير المعركة الفاصلة في حلب على مستقبل الحسابات الأميركيّة التي تنازلت عن الواجهة الكرديّة في المناطق الشرقية لحساب الأتراك كي يصمدوا ويثبتوا، ويؤخروا لحظة الاستحقاق عن الوجود الأميركي، وجاءت الساعات التي سبقت النصر لتحمل طلباً تركياً بالتدخل المباشر للأميركيين أو للناتو كشرط لخوض تركيا المعركة عسكرياً بجيشها، وأقام الجميع حساباته، وعندما قرّر الناتو عدم الدخول، فهذا يعني أن واشنطن هي التي قرّرت، وقرارها هنا هو نسخة عن قرارها اللاحق بالنسبة للمناطق الشرقية، وإلا لكان الأفضل دمج المعركتين معاً وكسب ما تؤمّنه شراكة تركيا من فرص أفضل.
– النصر العاشر سياسيّ ودبلوماسيّ في علاقات سورية العربية والدولية، فالمتأخّرون عن دقّ أبواب دمشق، أو الذين فعلوا ذلك بتردّد وبالنقاط، باتوا يدركون أن عليهم مسابقة الزمن لفعل ذلك بصورة جدّية وسريعة وفعّالة، لأن الدولة السورية تُنهي آخر معاركها بسرعة، وتسابق الوقت بالمفاجآت، وعليهم أن يلاقوا ساعة النصر النهائي من سفاراتهم وقد استعادت كامل جهوزيتها ودورها في دمشق.
– نصر أخير لا رقم له هو انتقام رفاق السلاح للقائد قاسم سليماني الذي أقسم لأهل حلب بأن يكون معهم في التحرير الثاني الآتي بلا ريب، فكانوا معه يهدونه نصرَهم العظيم في ذكرى الأربعين.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/02/18