الشعبوية تدغدغ العواطف ولا تحل المشاكل
د. سعيد الشهابي
ظاهرة الشعبوية مقلقة للكثيرين، سواء في الغرب أم في العالمين العربي والاسلامي. وهي تتعارض أحياناً مع الفكر والمبدأ، وتتناغم مع العواطف والمشاعر غير المحكومة بالقيم أو المبادىء. هذه الظاهرة قد تدفع لإعمال العنف والارهاب، وقد تشجع التوجه نحو العنصرية، وتؤسس للتمزيق المجتمعي والدولي أيضاً. وهي التي تهمش دور العقل والتفكير ولا تشجع على العلم. ولها دلالات كثيرة ومؤشرات مقلقة، وتحتاج الى قراءات موسعة لمنع تفاقم المشاكل التي تواجه العلاقات الاجتماعية والدولية في عالم اليوم. فما الذي دفع العنصري الالماني للاعتداء الذي نجم عنه مقتل تسعة أشخاص؟ أليس ذلك مرتبطاً بصعود اليمين المتطرف الذي يؤسس وجوده على إثارة المشاعر لدى العامة ازاء قضية تنطوي على قدر من الإثارة وتعميق النظرات الضيقة للعالم والعلاقات بين البشر؟ ولماذا تزداد شعبية دونالد ترامب بعد كل خطوة مثيرة تتناغم مع المشاعر وإن كانت مناقضة للمنطق والعقل وحسابات المصلحة العامة وليس الذاتية؟ ولماذا فاز بوريس جونسون في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بنسبة عالية برغم فشله في قضايا عديدة بعد توليه رئاسة الوزراء خلفاً للسيدة تيريزا ماي؟ هل لأنه أكثر مبدئية أو إنسانية أو موضوعية من منافسيه في الأحزاب الأخرى؟ ولماذا تراجعت مشاعر الغضب الثوري في نفوس الشعوب العربية بعد قمع ثورات الربيع العربي؟ هل ذلك مرتبط بتفكير وحسابات منطقية أم مشاعر روّجتها قوى الثورة المضادة بموازاة القمع والاضطهاد والقتل الجماعي؟ وكيف تراجعت قضية فلسطين في الوجدان الشعبي العام حتى لم يعد هناك من يحرك ساكناً عندما ينتهك قادة الكيان الاسرائيلي وحكّام أمريكا القوانين الدولية؟ أين هو الحضور الشعبي العربي والاسلامي في الشارع للرد على المواقف الأمريكية تجاه القدس؟
في العام 1989 شهد العالم الاسلامي انتفاضة واسعة شاركت فيها الجماهير وسقط الضحايا بسبب صدور كتاب سلمان رشدي «الآيات الشيطانية». فمن لندن إلى برادفورد إلى العواصم الاوروبية إلى نيودلهي وكراتشي وجاكرتا، لم تتوقف الاحتجاجات التي استمرت بضعة أيام. أين هذه العاطفة التي أثارتها رواية من خيال كاتب مرتد، من حالة اللامبالاة لدى هذه الشعوب ازاء قضايا لا تقل أهمية بل ربما تنطوي على ابعاد أخطر؟ يجدر هنا طرح عدد من الامور ذات الصلة بالظاهرة الشعبوية، أي تلك الظاهرة التي تستطيع تعبئة الجماهير بشعارات تخاطب العواطف والمشاعر، وليس بالمنطق والعقل. هذه الظاهرة تعبر الحدود وتتصل بالثقافات المتعددة والاديان كذلك. فما الذي دفع الاسترالي برينتون تارنت للإقدام على قتل أكثر من خمسين من المصلين في نيوزيلاندا قبل عامين تقريبا؟ أليس هو التحريض غير المؤسس على العقل؟ وما الذي دفع سبعة إرهابيين للاعتداء على عدة كنائس في سريلانكا وقتل أكثر من 350 من المصلين؟ ما الذي دفع الدواعش لتفجير مسجد العسكريين بسامراء في العام 2005؟ صحيح أن ذلك مرتبط بالإرهاب، ولكن ما الذي يجعل هذا الارهاب المقيت محبوبا لدى جيل واسع من الشباب خصوصا أنه يتضمن احتمالات موت المشاركين فيه وليس المستهدفين به فحسب. وما الذي يدفع أعداداً كبيرة في الجزيرة العربية لاحتضان ظاهرة «الانفتاح» التي يفرضها محمد بن سلمان في الوقت الحاضر والتي اخترقت حدود الاراضي المقدسة حتى وصلت مكة والمدينة؟ هذا الاقبال ليس مؤسساً على التفكير العميق في الدين ومبادئه وأخلاقه، ولم يراجع المتأثرون بمسائل الحلال والحرام، ولم يذكروا الله وأحكامه وهم يقررون مواقفهم. هنا أصبحت الغرائز والعواطف مادة لتأثير الاعلام الذي يعتمد على «الإثارة» لجذب المشاهدين والقراء، بدلاً من ترويج قيم الخير. إن إثارة الصراع أو الخلاف بين طرفين يجذب الانظار، أما الحديث عن الوئام والتصالح فليس كذلك. وكذلك الحديث عن الخلاف الديني أو المذهبي يحظى باهتمام الباحثين عن الاثارة، بينما التطرق لمشاريع التقريب والحوار والمصالحة ليس كذلك. وما دام العالم مهووسا بالمال والمنفعة والفائدة والمصالح الشخصية، فإن مصالح المجتمع تتضاءل أمام ذلك، فتتم التضحية بقيم المجتمع والأمة والجماعة من أجل الفرد. كما يضحى بقيم الخير والاخلاق والالتزام والتسامح والحب ويستبدل ذلك بما يثير الكراهية والعداء للآخرين.
الظاهرة الشعبوية سلاح فاعل لدى قوى الثورة المضادة ومشكلة الطرف الآخر أنه يترفع عن استخدام هذه الأساليب التي لا تنسجم مع قيمه ومبادئه، بل تهدف لتحقيق أهداف سياسية على حساب المبادىء والقيم
وفي هذا السياق فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي يمثل أحد عناوين الظاهرة الشعبوية، فقد اعتمد على ترويج الخصوصية البريطانية وطرحت قضايا المال خصوصا المساهمة البريطانية السنوية لميزانية الاتحاد، كما طرحت مسألة الهجرة، وهي أمر حساس في الغرب عموما.
وهكذا تم الترويج لمبدأ الخروج من الاتحاد الامر الذي شغل بريطانيا أكثر من ثلاثة أعوام سادتها أجواء الفرقة والاختلاف، وأدت في النهاية لانتخاب رئيس وزراء لا يمكن اعتباره الاكثر كفاءة أو رجاحة عقل أو مبدئية. كما ان مسألة الهجرة اصبحت هي الاخرى موضوعا ساهم في ترويج الظاهرة الشعبوية، لأنه يثير مشاعر المواطنين في البلدان الاوروبية ضد المهاجرين، وكثيراً ما أدى لحوادث قتل كبيرة، وتقطع أواصر العلاقات بين الآدميين. انه طريق مشابه لما يحدث عادة في الاجواء التي تسبق الحروب الكبرى كالحرب العالمية الثانية، الامر الذي يدفع للقلق من مستقبل هذه الانسانية التي يجرها حكامها للحروب واراقة الدماء والمعاناة. فما الذي أحدث المجاعة ونشر المرض في اليمن؟ هل لذلك صلة بعلاقات الشعبين؟ أم أنه من صياغة حكام الجزيرة العربية وحلفائهم؟ ولكي يتم ذلك كان ضروريا ترويج المقولات التي تدعم الشعبوية. ومن ذلك إضعاف الأمة بتمزيق شعوبها وفق خطوط التمايز العرقي والديني والمذهبي. كان لا بد من إحداث بلبلة في الاوساط العربية والاسلامية، تارة باستهداف إيران واعتبارها «فارسية» و»مجوسية» و»شيعية» وأخرى الحركات الاسلامية خصوصا الاخوان المسلمين، وثالثة حركات المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي. هذه الطروحات غيرت قواعد السجال الشعبي، وصرفت الانظار عن القضايا الحقيقية التي تواجهها كالاستبداد والاحتلال والهيمنة الاجنبية. جاء ذلك في سياق التصدي لظاهرة التغيير التي حفل بها الربيع العربي قبل تسعة أعوام. ونظراً لحجم ذلك الحراك غير المسبوق منذ عقود، فقد استخدمت كافة الأساليب لإفشاله. هذه المرة لم يقتصر القمع على استخدام أدواته التقليدية كالاعتقال والتعذيب والاعدام فحسب، بل أُضيف لها هدف آخر وهو إحداث تغيير في المزاج الشعبي العام، حتى انصرف الكثيرون عن قضاياهم الاساسية بسبب هندسة خاصة استهدفت الافكار والهوية والذوق. وهكذا تقلص الانسان العربي من رجل يحمل هم أمة الى فرد يهتم بنفسه ويسعى لحمايتها من بطش الحاكم ويسعى لتحصيل ما يعتبره «لذائذ الحياة» بدلاً من تحمل المشقات واداء الدور وحمل لواء التغيير. ولذلك استطاع ولي العهد السعودي تغيير الصورة النمطية السعودية جذرياً، فروّج للسياحة المتحررة من الضوابط الاخلاقية، واستقدم المطربين والمطربات وأغدق عليهم المال بدون حدود، وقضى بذلك على قداسة أرض الحرمين الشريفين، ولم تحدث ردة فعل من العلماء والمفكرين ضد ذلك.
ولإكمال ظاهرة الشعبوية عمدت الانظمة للمبالغة في معاقبة من يعصي أوامرها. وبلغت القسوة مستويات غير مسبوقة من تنكيل وتعذيب وإعدام بلا رادع. فخفتت أصوات معارضي المشاريع السلطوية بينما سعى الحكام لترويج ثقافة الخنوع والاستسلام والصمت. عندها أصبح في الإمكان تمرير مشاريع مهينة حول قضايا عديدة أهمها فلسطين. نتنياهو استخدم هو الآخر ظاهرة الشعبوية بتصعيد الخطاب ضد الفلسطينيين من جهة، وتوسيع المستوطنات من جهة أخرى، وضم الاراضي الفلسطينية الى الكيان الاسرائيلي، وبالإضافة لذلك أصبح يتشدق بالعلاقات التي استطاع إقامتها مع عدد من الانظمة العربية، وهي علاقات ساهم ترامب في الدعوة لها، وجعلها شرطا لدعم بعض الانظمة خصوصا السعودية والامارات والبحرين. وبرغم ما يواجهه من قضايا قضائية في المحاكم الاسرائيلية بتهم الفساد والرشوة، فقد استطاع ان يبقى الفترة الاطول رئيسا للوزراء. فخطابه كان متناغما مع اطروحات اليمين الاسرائيلي المتطرف، وسياساته كانت كذلك ايضا. وساهم صعود ترامب للرئاسة الامريكية في تسهيل مهمة حكومة نتنياهو التي كانت علاقاتها مع البيت الابيض في عهد الرئيس اوباما متوترة. كما ساعد سياساته قرار ترامب نقل السفارة الامريكية الى مدينة القدس ثم اعلانه المدينة عاصمة للكيان الاسرائيلي، متحديا بذلك القرارات الدولية التي ترفض الاحتلال الاسرائيلي لمدينة القدس الشرقية. هذه التطورات تعتبر اختراقاً خطيراً للوضع العربي، خصوصا مع توسع العلاقات الدبلوماسية بين «اسرائيل» ودول العالم. كل ذلك يحدث على حساب فلسطين وأهلها، وفي غياب ردود فعل مناسبة في الشارعين العربي والاسلامي. المشكلة أن قوى الثورة المضادة خلقت جداراً سميكاً بين الراي العام العربي الذي أصبح أسيراً للظاهرة الشعبوية والشعارات التي تخاطب العاطفة والمشاعر وليس العقل والمنطق فحسب، وبين القوى المناهضة للكيان الاسرائيلي مثل إيران وسوريا واليمن وحركات المقاومة. وهكذا تبدو الظاهرة الشعبوية سلاحاً فاعلاً لدى قوى الثورة المضادة. مشكلة الطرف الآخر انه يترفع عن استخدام هذه الاساليب التي لا تنسجم مع قيمه ومبادئه، بل تهدف لتحقيق أهداف سياسية على حساب المبادىء والقيم.
أهي حقبة زمنية محدودة هذه التي راجت فيها الظاهرة الشعبوية؟ أم أنها ستصبح الظاهرة الاكثر شيوعا للعقود المقبلة خصوصا مع تعمق ظواهر الاستهلاك والتبعية وتشوش الفكر وغياب الشعور بالانتماء لهوية واضحة لدى الاجيال الجديدة.
؟ الامر المؤكد ان الشعبوية ظاهرة لا تخدم عامة الناس، بل تستخدم لبث ثقافة تقضي على المقاومة وتقلص مشاعر الانتماء والكرامة والوحدة والروحانية والثبات أمام زحف العدو، كما توطد أركان أنظمة الاستبداد والاحتلال. مشكلة مركبة تستفحل في غياب الوعي والصوت المسؤول وعالم الدين الحر الذي يتكلم ولو غضب الحاكم.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/02/24