مدينة نيوم.. أكثر من جسر تطبيع اقتصادي
محمد فرج
ماذا يعني أن يكون هناك إصرار إسرائيلي على استكمال مشروع نيوم أكثر من الإصرار السعودي نفسه؟ ربما أجاب عبدالرحيم الحويطي قبل قتله على يد أجهزة الأمن السعودية: "الآن أتذكر ما الذي حصل مع الفلسطينيين".
عندما أنتجت قناة "الميادين" فيلماً وثائقياً عن مدينة نيوم، ذهبت التعليقات المؤيّدة للمشروع في ذاته، أو المؤيّدة للمشروع التطبيعي الخليجي، إلى اعتبار ما يطرح في الوثائقي هواجس مفرطة نابعة من نظرية المؤامرة، فهل يمكن القول إنَّ ما سُمي حينها "نظرية المؤامرة" يمثّل اليوم الواقع العياني والمحسوس؟
في سياق متَّصل، اعتبرت بعض الأصوات أن الحديث عن مشروع المدينة مضيعة للوقت لا مبرر لها، فهو مشروع لن يكتب له النجاح ولن يستكمل، بسبب شحّ الموارد المالية الذي ستعاني منه السعودية في المستقبل (الذي بدأ الآن)، ولكن ما جرى هو العكس تماماً، فمع أزمة العوائد المالية النفطية في السعودية، ومع أزمة كورونا، يستمرّ العمل على استكمال المشروع، وتُقتلع عائلات من أماكن سكنها التاريخية لصالح بناء الاستثمارات الجديدة، كما حدث مؤخراً مع عشيرة الحويطات، التي اشتبك عدد من أفرادها مع قوات الأمن دفاعاً عن بيوتهم.
كلّ ذلك يفجّر سؤالاً مركزياً حول ماهية المشروع، ماذا يعني أن يكون مشروع نيوم أكثر من مشروع اقتصادي؟ وماذا يعني أن يكون هناك إصرار إسرائيلي على استكماله أكثر من الإصرار السعودي نفسه؟ ربما أجاب عبدالرحيم الحويطي قبل قتله على يد أجهزة الأمن السعودية باختصار: "الآن أتذكر ما الذي حصل مع الفلسطينيين". إنه يقارب مشروع تهجير السكان الأصليين وأصحاب الأرض في فلسطين مع ما ينتجه مشروع نيوم، والسبب واحد: "إسرائيل" والتطبيع معها.
تهيئة "إسرائيل" الجديدة.. الهيمنة تقنياً
بعد 72 سنة على الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، ما زالت "إسرائيل" عاجزة عن فرض حلول ديمغرافية وجغرافية، بمعنى الإخلاء الكامل للأراضي من أصحابها، وفرض الحدود على مزاجها بشكل مطلق، وما زالت عاجزة عن كسر حالة الرفض الشعبي لها في المحيط العربي.
وما زاد الطّين بلّة بالنسبة إليها، وصول محور المقاومة إلى حدودها، بتنظيمات مدرّبة ومستعدة وقادرة، الأمر الذي يلجمها من التفكير في أي نسخة من الحروب الخاطفة، ويجعلها تلجأ إلى حلول جديدة، تمثل في جوهرها ماهية "إسرائيل الجديدة".
تقوم هذه الحلول على بناء تجمع تكنولوجي ضخم، تقدم فيه "إسرائيل" الأبحاث والمختبرات والأنظمة والموارد البشرية، وتنسّق في سياق ذلك مع الشركات العالمية الكبرى، ومع الخليج كواحد من أكبر الزبائن والممولين في الوقت نفسه، وأيضاً بوابة التسويق إلى الأسواق العربية، للهيمنة على بنيتها التحتية من خلال أنظمة الحماية الإلكترونية..
نيوم تختصر كل هذا في مكان واحد، وتؤسس لهذه المرحلة، وتمثل قلبها، وهي التعبير العملي لما يوصف في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن الكيان الغاصبstartup nation ، Technical Hub، وغيرها.
إن عقود الشراكة بين الشركات الأميركية والشركات الإسرائيلية الناشئة في مجال التكنولوجيا والـIOT يتضخم بشكل غير مسبوق (ومن ذلك عقدinsight partners مع Armis، بمبلغ مليار دولار نهاية العام 2019م).
لا يقتصر الأمر في الخليج على عقود شراء أنظمة حساسة من "إسرائيل"، وتشغيلها في قطاعات حساسة بالنسبة إلى الدولة (4D Security, Logic industries, AGT)، وإنما يصل إلى حد أن كبريات الشركات العاملة في الإمارات مثلاً بدأت تعطي الأولوية في التوظيف لخريجي الوحدة 8200 من الجيش الإسرائيلي، وهي الوحدة المختصة في أمن المعلومات (Cyber Security).
كسر حصار الجغرافيا
في خطاب للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، يقول إن المصريين لم يسمحوا قبل العام 1956م (العدوان الثلاثي على مصر) للسفن الإسرائيلية باستخدام مضيق تيران، حتى إن السفن الأميركية والبريطانية.. ليست تيران عائقاً جغرافياً في طريق نيوم فقط، وإنما هي عائق تاريخي وسياسي وأخلاقي في مواجهة مشاريع التطبيع كذلك.
إن الحصار الذي عمل على تكريسه عبدالناصر ضد "إسرائيل"، تحاول السعودية اليوم عبر مشروع نيوم تحويله إلى حلقة وصل قوية مع "إسرائيل"، والمصريون الذين يستذكرون حرب أكتوبر ورفع العلم المصري على الجزيرتين على أنغام "رايحين شايلين في إيدينا سلاح"، يراد لهم أن يتحولوا إلى عمالة رخيصة في المشاريع الإسرائيلية الجديدة، وأن يلقوا السلاح، ويحملوا لوازم المستودعات (هذا إن لم تنافسهم الروبوتات الإسرائيلية على فرص العمل تلك).
إن ذلك ينسجم تماماً مع تاريخ الموقف السعودي من الجزيرتين، فهي لم تعترض على استخدام المصريين لها في العدوان الثلاثي أو في حرب حزيران أو حرب أكتوبر العام 1973م، لأنها لا تريد أي مواجهة مباشرة مع "إسرائيل"، ولكن الموقف اتخذ اتجاهاً مغايراً منذ اتفاقية كامب ديفيد، باعتبار أن حالة الحرب انتهت، ووصل الموقف إلى ذروته مع إلحاح مشروع نيوم التطبيعي.
تجد "إسرائيل" عبر مشروع نيوم (الامتداد البحري وصولاً إلى إيلات، ثم براً باتجاه ميناء حيفا)، بالترافق مع مشاريع سكك الحديد مع الأردن ودول الخليج، مضافاً إليها خطوط الغاز، الفرصة التاريخية الأمثل لبناء الاتصال الجغرافي الواقع تحت هيمنة "إسرائيل الجديدة".
إنها باختصار المعادلة الأساسية للخطة الإسرائيلية؛ جغرافيا متصلة واقعة تحت هيمنة أنظمة تكنولوجية وبنية تحتية إسرائيلية، واستثمارات بالتشارك مع الخليج.
نيوم ليست مشروعاً اقتصادياً يحاول إبدال حقبة النفط، فالاقتصادات الريعية لا تستبدل بها اقتصادات هشة وظيفتها الوحيدة احتضان الاستثمار، كما أنها ليست فقط تطبيعاً اقتصادياً، بل ربما تكون الذراع الأخطر في عملية التطبيع التي تقودها السعودية والإمارات اليوم، فأن تؤسّس جغرافيا متصلة، يديرها اقتصاد إسرائيلي، وتروّج لمنطقة سياحية باستدعاءات توراتية (جبل اللوز ومواقع عبور النبي موسى)، فذلك أوسع من مشروع تطبيع اقتصادي مقتصر على كسر المقاطعة وتبادل البضائع.
نيوم مشروع مستمر بعيداً من مؤثرات الاقتصاد، فهو لم يكن مصمماً لغايات اقتصادية سعودية، وإنما لضرورة جيوسياسية صهيونية.
الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/05/17