وثائق بَنَمَا... قراءة بصورة أخرى
محمد عبدالله محمد ..
بَنَمَا... هي جمهورية «طوليّة الشكل» تقع في وسط أميركا الوسطى، وتربط أميركا الشمالية بالجنوبية. مساحتها تزيد قليلاً على 78 ألف كيلومتر، ونفوسها 3 ملايين و800 ألف إنسان. وربما ارتبطت ذاكرة العالم بهذا البلد من خلال حقبة رئيسها السابق مانويل نورييغا الذي شارك في حكم بنما «عمليّاً» منذ بداية السبعينات، حتى الإطاحة به «أميركيّاً» في نهاية ثمانينات القرن الماضي.
في الأيام الماضية، انكشف العالم أمام نفسه بعد أن قام الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين ومقره الولايات المتحدة الأميركية بالكشف عن ملايين الوثائق التي أظهرت عمليات تهرّب ضريبي وغسل أموال، تورّط فيها الكثير من مسئولي الدول وزعماء سياسيين وروَّاد المال والرياضة السابقين والحاليين، وهو ما اعتُبِرَ ضربة لمشاريع الصدقية والشفافية على المستوى الدولي.
الحقيقة أنني لستُ بصدد الكتابة عن هذه القضية تحديداً، فقد كُتِبَ عنها الكثير، وعَلِمَ أغلبنا بتفاصيلها وما آلت إليه، لكنني أريد أن أتحدث عن أمر آخر، قد يُرَى على أنه عَرَضِي لكنه محوري، وهو المتعلق بقوة وسطوة التكنولوجيا وعلاقتها بالحدث، والتي لولاها لما ظهر ذلك التحقيق، أو على الأقل لتأخّر كثيراً عن يومنا هذا.
فالوثائق التي تحصَّل عليها الإتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين هي بحدود 11 مليون ونصف مليون وثيقة. هذه الوثائق بلغ حجم سِعتها 2.6 تيرابايت (TB)، مُجمَّعة على هيئة (PDF) وأشكال أخرى من التخزين! إنها أرقام فلكية حقّاً علينا تخيُّلها. فإذا ما قلنا إن كل وثيقة تضم 280 كلمة بحسب سِعَة الصفحة ضمن حجم خط مقداره 14 فهذا يعني أن كلمات تلك الوثائق قد تصل إلى 3 مليارات و 220 مليون كلمة!
وعندما نقول 2.6 تيرابايت هو حجم تخزين تلك الوثائق، فيجب أن نعلم أن الـ تيرابايت الواحد كوحدة قياس تخزينية هو عبارة عن تريليون بايت. وأمام كل هذا الكَمّ الواسع من الوثائق ومحتوياتها وسِعتها يظهر لنا حجم الجهد الذي يتطلّبه ذلك، لِفَكّ وترتيب حقائق التعاملات المالية المرصودة، وأرقامها، وتصنيفاتها، وشخوصها، وما يتطلبه ذلك من كلمات مفتاحية وربط.
هنا نأتي إلى قراءة الحدث بالطريقة التي أشرت إليها، وهي الجوانب التقنية في الموضوع. فقد أعلِنَ قبل أيام أن شركة برمجيات أسترالية صغيرة ومقرها سيدني هي التي أنتجت برنامج الكمبيوتر الدقيق الذي ساعد الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين «في تجميع خيوط الأخبار من كم هائل من البيانات التي عُثِرَ عليها في وثائق» شركة موساك فونسيكا القانونية البَنَمِيّة.
انجيلا برونتينج نائبة رئيس الشركة التي تُدعَى نويكس قالت: «ما قمنا به هو أننا مَكَّنا الاتحاد الدولي للصحافيين من القيام بما لم يكن بمقدورهم عمله على الأرجح في شهور أو سنوات». كيف؟ البرنامج جعل الصحافيين (كما جاء) قادرين على «تحويل ملايين الوثائق المصوَّرة وبعضها مُصوَّر منذ عشرات السنين إلى نصوص يُمكن البحث فيها» بسهولة وفَكِّ قفلها كصور مُسيّجة.
أيضاً، ساعد ذلك البرنامج الصحافيين في الاتحاد على رصد وتتبّع أسماء المشتركين مع موساك فونسيكا، ومطابقتهم بالمعلومات الواردة في تلك الوثائق والوصول إلى نتائج وخلاصات مُحدَّدة وصارمة، وتبويبها كي يسهل قراءتها. هذا عملٌ جبار، لم يكن ليحدث فعلاً لولا وجود مثل هذا البرنامج، الذي اختصر عملهم، ليُعلَن في وقت قياسي وفي ظروف عالمية مواتية لمثل ذلك الإعلان.
اليوم، وبعد إعلان ذلك، تبيَّن أن هذه الشركة التي لا يزيد عمرها على عشرة الأعوام، والتي بدأت بموظف واحد يعمل على ابتكار خيارات للبريد الإلكتروني، تبيع برامجها المتميّزة في 65 دولة في العالم، وأحد زبائنها هي وكالة المخابرات المركزية الأميركية (CIA) وجهات حكومية وقانونية مرموقة، لكشف التهرّب الضريبي واستغلال الأطفال جنسيّاً وما يُسمّى بتهريب البشر.
الحقيقة، أنه وحين نتأمّل في كل ما يجري، نرى أن كل شيء بات مرتبطاً بعوامل أخرى تساعد على تقدُّمه أكثر. فمثلاً الصحف وشياع الكتاب صار أوسع وأسرع بعد اختراع الآلة الكاتبة قبل أزيد من ثلاثة قرون. الأخبار صارت أكثر انتشاراً بعد اختراع المذياع قبل مئة وواحد وعشرين عاماً. والتوثيق صارت أكثر دقة بعد اختراع الكاميرا قبل مئة وتسعين عاماً. وكذلك الحال بالنسبة للعديد من الاختراعات في المواصلات والعلوم بأنواعها.
وكل هذه الاختراعات تتطوّر في ذاتها، فتلقي بظلالها على محيطها لتصبح وتيرتها أسرع. هذا الأمر ينطبق على ظهور الانترنت (سرّاً) في العام 1969م عند وزارة الدفاع الأميركية، وبعدها سنة بعد أخرى تطوراً، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه. وهي ضريبة، يدفعها الجميع، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية المهيمِنة على تدفق المعلومات وحريتها.
رأينا ذلك في مسألة الحسابات المصرفية الأميركية، التي تمّ الدخول إليها وتقييد حركة أصحابها، الأمر الذي تسبب بخسائر مليونية. بل الأكثر من ذلك، حين وصل قراصنة الإلكترونية إلى نظام التحكم ببيانات سد بومان افنيو في راي في نيويورك قبل ثلاثة أعوام. وكذلك ما تعرضت له مجموعة بنوك مرموقة كـ أوف أميركا وجي بي مورغان وسيتي غروب قبل أربعة أعوام. وحدث مثله في كندا ودول كثيرة من العالم الأول.
خلاصة القول إن الحصول على المعلومة (أيّاَ يكن شكلها) بات مرتبطاً بصورة عضوية بالتطور التكنولوجي كعلاقة طردية. لكن وفي نفس الوقت فإن هذا النظام الإفتراضي بات خارج السيطرة حتى عن الذين جاؤوا به، واستخدموه ولايزالون يفعلون ذلك. فهو نظام غير مُهندَس بطريقة صارمة، بحيث تكون له أبواب ونوافذ بطريقة تقليدية، وبالتالي يصبح الأمان فيه رجراجاً وقابلاً للاختراق دائماً.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/04/09