النظام العالميّ الجديد ينطلق من إيران
د. وفيق إبراهيم
خمس دول كبرى متباينة إلى حدود التناقض في تعاملها مع الصراعات العالميّة. تتحدّد اليوم رفضاً للسياسات الأميركية المعادية لإيران.
هذه البلدان هي الصين وروسيا والثلاثي الأوروبي الأقوى الألماني والفرنسي والبريطاني.
فإذا كانت روسيا والصين في اشتباك دائم مع الأميركيين منذ 1990 فإنّ أوروبا تجهر عبر هذا الثلاثي بموقف رافض للأميركيين للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945.
فمنذ ذلك التاريخ ورث الأميركيون النفوذ الأوروبي في العالم وألحقوه بأحاديتهم القطبية بشكل ألغوا فيه الاستقلالية الأوروبية انما بتفاوت نسبي بين ولاء انجليزي كامل وانصياع ألماني اقل نسبياً ومحاولات تمرّد فرنسية لم تنجح في أكثر من مرة.
فما الذي حدث حتى بدأ الأوروبيون بالتمرّد؟
توصلت هذه الدول الخماسية مع الأميركيين على إبرام اتفاق نووي مع إيران في 2015، قبلت فيه الجمهورية الاسلامية بوقف تخصيب اليورانيوم المخصص لإنتاج قنبلة نووية ووافقت على مراقبة دائمة على مفاعلاتها من قبل وكالة الطاقة الدولية وجرى تسجيل الاتفاق في مجلس الامن الدولي مع إعطاء الحق لأعضائه في إبداء اعتراض او مطالبة بتشدد.
لكن وصول ترامب للرئاسة الأميركية سجل تغييراً بنيوياً في سياسة دولته تجاه إيران. متبيناً العدائية الإسرائيلية تجاهها ومحرّضاً الخليج العربي ضدها، حتى وصل الأمر الى انسحاب الأميركيين من الاتفاق النووي في 2018. على الرغم من أن وكالة الطاقة النووية الدولية جزمت بعد أكثر من معاينة ميدانية أن المفاعلات الإيرانية لا تنتج نووياً صالحاً للقنبلة.
فاتضح أنّ الأميركيين يربطون بين الاتفاق النووي وانتاج إيران لصواريخ باليستية دقيقة ونجاحها في بناء تحالفات امتدت من قوى محلية في افغانستان وباكستان، ودولة صنعاء ونفوذ كبير في العراق وتحالف مع الدولة السورية وعلاقات بنيوية مع حزب الله في لبنان.
لذلك بدا واضحاً انّ الأميركيين يستعملون الاتفاق النووي هراوة يدمّرون بها الصمود الإيراني الكبير، وذلك خدمة لـ «إسرائيل» ودعماً لنفوذهم المتراجع في المنطقة.
حتى أنهم نصبوا حصاراً حول إيران لا يزال يمنع منذ 1990 العلاقات الاقتصادية لإيران مع الخارج استيراداً وتصديراً ولولا القوة الإيرانية لانفجرت الجمهورية الاسلامية، لكنها تمكنت من الصمود وبناء احلاف قوية في مدى إقليمي واسع.
هذا الوضع لم يقبله الأميركيون مواصلين تحريض حلفائهم وصولاً الى انسحابهم من الاتفاق النووي في 2018. وبذلك لم يعد الأميركيون اعضاء. هنا لجأ الاوروبيون الى اسلوب المواربة والمداهنة مؤيدين معظم انتقادات الأميركيين لإيران، لكنهم لم يوافقوا على الانسحاب من الاتفاق.
من جهتها وكالة الطاقة الدولية فتشت اكثر من مرة المفاعلات في إيران وأكدت التزام طهران بمعايير الاتفاق النووي.
فما هو الجديد اذاً؟
فشل المشروع الأميركي بتدمير إيران مسجلاً تراجعاً ملحوظاً ولم تقبل الجمهورية الإيرانية بعروض هدنة أرسلها اليها ترامب محاولاً ان يحسن بها اوضاعه السيئة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في تشرين الثاني المقبل، فكان هذا الرفض الإيراني سبباً اضافياً لتأجيج اسرائيلي خليجي أميركي تجسد في محاولة أميركية لتجديد منع إيران من شراء أسلحة من الخارج او توريد اسلحة خارج اطارها.
وفجأة صعد الأميركيون نحو مطالبة الثلاثي الأوروبي بالموافقة على تجديد الحصار على إيران بموجب الاتفاق النووي في مجلس الامن الدولي.
وكان طبيعياً صدور رفضين صارمين من قبل الصين وروسيا اللتين تتجهان الى عقد تحالفات عميقة مع الجمهورية الإسلامية.
لكن ما فاجأ الأميركيين والإسرائيليين والخليجيين هو رفض الثلاثي الأوروبي فرنسا وبريطانيا والمانيا لمنع إيران من شراء أسلحة، كذلك تجديد الحصار عليها لانتفاء الأسباب، مقدّمين سببين متتابعين الأول انّ إيران تلتزم بشروط الاتفاق النووي وتطبق كلّ المعايير المطلوبة. اما السبب الثاني فهو انه لا يحق للأميركيين طلب تجديد الحصار حولها لأنهم انسحبوا من الاتفاق النووي منذ 2018 ولم يعد لهم الحق بالمطالبة بتجديد الحصار لأنهم أصبحوا «غرباء» عن الاتفاق غير مشاركين فيه.
هذا ما أصاب الأميركيين في الصميم، فإذا كان بوسعهم تحمّل الرفض الروسي الصيني فإنّ موقف الأوروبيين المستجدّ منهم، يثير ريبتهم وذلك للأسباب التالية:
أولاً انهيار الخوف الأوروبي التاريخي منهم حتى انّ بريطانيا الملتصقة بهم بشكل كامل تخلت عنهم.
ثانياً بات الموقف الأوروبي متحالفاً مع الموقفين الروسي – الصيني، ما يعني انه مبني على حسابات استراتيجية أصبحت ترى إمكانية التمرد على التسلط الأميركي.
هناك نقطة ثالثة وهي أن إيران المتمرد الأساسي الذي مهّد لروسيا والصين والثلاثي الأوروبي فرصة التشكل عالمياً، ليست قوة عادية، فهي مليئة بالثروات المنشودة غربياً ولديها تحالفات قوية، وتمتلك بدورها مصادر طاقة واقتصادات متنوّعة.
بذلك يتضح أنّ ما يفعله الاوروبيون حالياً هو بداية انقلاب على الجيوبوليتيك الأميركي في مرحلة تراجعه سعياً وراء موقع في حركة الصراع على النظام العالمي الجديد.
فإن كانت الدولة الأوروبية الواحدة عاجزة عن الانتماء الى النظام العالمي الجديد فإنّ الثلاثي الأوروبي المنتفض يستطيع مجتمعاً ان يكون القوة الرابعة في نظام متعدّد القطب، يشمل الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية وذلك بدعم غير مباشر من إيران التي دفعت بمقاومتها للنفوذ الأميركي في الشرق الاوسط الى تكوين الظروف المؤاتية للتعددية القطبية.
وإذا كانت إيران لن تنتظر برقية شكر من الدول المستفيدة فإن حلفها مع سورية وحزب الله والحوثيين والحشد الشعبي والمقاومة الفلسطينية بوسعهم تأسيس نظام إقليمي مقتدر بالتأييد الشعبي والإمكانات الاقتصادية والعسكرية وبمشروع كبير يطمح الى شرق أوسط جديد باستقلالية عن الأميركيين.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/08/26