شرق المتوسط... خليج آخر؟
حسام مطر
حالياً، تقع أبرز توتّرات وصراعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على ضفاف شرق المتوسط. فهذه المنطقة تشهد تكثيفاً لصراعات الإقليم، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية والجيوسياسية والأيديولوجية. لهذا، يبدو شرق المتوسط، اليوم، مختبراً حيّاً للتحوّلات الإقليمية والدولية التي تعصف بكل المنطقة بل والعالم. لقد أدّت الاكتشافات الغازية في شرق المتوسط إلى تشجيع الصراع والحرب، بدل السلم، وكذلك إلى تبلور سياسة محاوِر محتدِمة، قطباها كلّ من تركيا وفرنسا. أصبح شرق المتوسط مجالاً شديد الجاذبية للقوى الكبرى في المنطقة وخارجها، من ناحية تحوّله إلى مركز طاقوي، مصدراً وممراً، ومجالاً للتنافس الجيوسياسي، ومنطلقاً لقضايا الأمن والهجرة والتهريب والتطرّف التكفيري.
مجمل هذه التحوّلات يؤدّي إلى تحويل شرق المتوسط إلى غاية بذاته، وليس مجرّد وسيلة لتحقيق مصالح استراتيجية أكبر في الشرق الأوسط. بل تصدر كتابات تدعو إلى التعامل مع شرق المتوسط إقليماً بذاته، حيث يؤدّي غازه دور النفط في منطقة الخليج، وبالتالي يصبح ذا واقع أمنيّ جديد على المستوى الإقليمي. حالياً، يقود التنافس التركي ـــــــ الفرنسي، على وجه الخصوص، لعبة توازن القوى في هذا الإقليم، وهذا هو محور اهتمام المقالة، وخصوصاً من زاوية نظر فرنسية.
تركيا: التوسّع في تعريف «الحقوق»
لا يمكن فهم التحوّل في المقاربة الفرنسية، إلّا بعد إدراك الطموحات التركية المستجدّة. يريد رجب طيب إردوغان أن تؤدّي تركيا دوراً «شبه مستقل» من داخل التحالف مع الغرب، بحيث تكون ذات نفوذ داخل الشرق الأوسط والأجزاء السابقة من السلطنة العثمانية، بما يتماهى مع نموذج شارل ديغول للسياسة الخارجية الفرنسية، حين أراد لفرنسا أن تبدو كقوة عظمى بذاتها (غير مستتبعة) داخل الغرب. ما تقوم به تركيا بديهيّ إلى حدّ بعيد، فكلّ دولة تتزايد موارد قوتها تميل نحو إعادة تعريف مصالحها و«حقوقها» بشكل موسّع عبر الاحتجاج بالتاريخ والأيديولوجيا وأحيانا القانون.
لطالما كان تاريخ العلاقات العثمانية ـــــــ الفرنسية معقّداً ومتداخلاً، وسيطرت البراغماتية على العلاقات الفرنسية ـــــــ التركية، التي كانت تنتقل من التعاون في وجه الروس إلى الصراع على تقاسم إرث الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، ومن الحرب في عهد الاستقلال الأتاتوركي إلى الالتحاق بأوروبا (بريطانيا وفرنسا تحديداً) بهدف التحديث والحماية، ومن التقارب في حقبة الحرب الباردة إلى النفي من «الفردوس الأوروبي» بعد عام 2003.
برز دور تركيا، بعد عام 2011، في شرق المتوسط، وفقاً لديناميكيات داخلية وخارجية، بحيث أضحت أنقرة من مراكز القرار الإقليمي ذات النفوذ، الصلب والناعم، في جملة من الساحات والقضايا، من بينها الحضور في شرق المتوسط، عبر دورها المستجد في كلّ من مصر (حقبة محمد مرسي) وسوريا وقطاع غزة ولاحقاً ليبيا. وقد ساهم فشل الانقلاب العسكري ضد إردوغان، عام 2016، في تحفيز طموحاته التوسعية لسببين: الأول، أتاح فشل الانقلاب المجال لإردوغان لإعادة تشكيل الجيش التركي، وبالتالي القدرة على توظيفه أكثر في السياسة الخارجية، وثانياً زادت رغبة إردوغان في تحدّي الغرب الذي وُجّهت له تهمة تدبير المحاولة الانقلابية. كذلك، لا يمكن إغفال أنّ إرودغان أبعدَ داوود أوغلو، صاحب نظرية صفر مشاكل، عن دائرة صنع القرار في أيار/ مايو 2016. كما أنّ اشتداد الضغوط السياسية والاقتصادية الداخلية والانقسامات في الدائرة القريبة لإردوغان، تدفعه إلى التشدّد في السياسات الخارجية لتعبئة القاعدة القومية والدينية حوله.
وردّاً على الانزياح في ميزان القوى المتوسطي نحو كلّ من تركيا وروسيا، وتزامناً مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتسليمه ملف الشرق الأوسط لتيار اليمين المسيحي المتشدّد، رعت واشنطن عام 2018، ثم عام 2019، قيام تكتّل إقليمي للغاز ـــــــ «منتدى غاز المتوسط» ــــــ يستثني تركيا، بهدف الحدّ من تطوّر نفوذها في المنطقة وموازنتها، ولكن من مدخل طاقوي. تمكّنت أنقرة، في وقت قياسي، من استيعاب جهود احتوائها في شرق المتوسط، من خلال مقاربة هجومية قامت على المشاركة العسكرية المحدودة واستعراضات القوة وتقديم المساندة العسكرية والسياسية لحليفها الليبي والقيام بحملات دبلوماسية واسعة مع تأمين مشروعية داخلية لخطواتها في شرق المتوسط. فنجحت في حماية جزء كبير من مطامعها في سوريا، واستعادة المبادرة في ليبيا والتقدّم للقيام باستكشافات للطاقة في مناطق متنازع عليها، وتوقيع اتفاقية ترسيم للحدود مع ليبيا (تشرين الثاني/ نوفمبر 2019) رغم الاعتراض الأوروبي والمصري.
أدّت هذه الخطوات إلى اختلال التوازن في شرق المتوسط لصالح أنقرة. وفي هذا السياق، بدأت تبرز مقاربة تدخّلية فرنسية في المنطقة. بهذا المعنى، تكون المقاربة الفرنسية الحالية استكمالاً لمنتدى الغاز الذي عجز بمفرده عن كبح جماح تمدّد النفوذ التركي.
فرنسا: الواقعية الدفاعية
تتعارض المصالح الفرنسية ـــــــ التركية في شرق المتوسط، كون كلتا الدولتين لهما إرث تاريخي في المنطقة التي تقاربانها كمجال نفوذ حيوي، وكذلك هناك تنافس في موضوعات الطاقة والدور في أفريقيا وتباين في الموقف من الهجرة والإرهاب. يطمح الأوروبيون بالحفاظ على شرق المتوسط بحيرة غربية، فيما تراه تركيا أحد مجالات النفوذ الخصبة لمدّ تأثيرها، بشكل يمنحها أفضلية في العلاقة مع الأوروبيين والتوغل أكثر نحو أفريقيا بعد وصول طموحاتها في المنطقة العربية إلى حدود مقيّدة بشدة. كما أنّ كلا الدولتين هما الأبرز اقتصادياً في المتوسط، ولذا من الصعب على فرنسا، وأوروبا عموماً، أن تدير ظهرها لتركيا. ويشير باحثون إلى أنّ فرنسا تنظر إلى نفسها كقوة بحرية، وليس برية، وهي تعرّف مصادر التهديد بناء على ذلك، فالتهديد مصدره البحر بالتحديد شرق المتوسط، وهذا ما يمكن أن يفسّر جزءاً من التباين بين فرنسا وألمانيا في ما يخص الأمن الأوروبي. كان التدخل الفرنسي إلى جانب دول منتدى الغاز، سعياً لاستعادة التوازن بوجه أنقرة. طرح إيمانويل ماكرون فكرة «السلام المتوسطي»، حيث يمكن لفرنسا أن تؤدّي دور الضامن للاستقرار في المتوسط، وهو ما يعني ضمناً حفظ وإدارة التوازن القائم بما يضمن مصالحها. ولذا، يمكن أن تنطبق على فرنسا نظرية الواقعية البنيوية الدفاعية، فهي لا تسعى إلى موقع الهيمنة، بل إلى أن تحظى بالمقدار الكافي من القوة لضمان توازن يخدم مصالحها. وبالتحديد يمكن أن ينطبق مفهوم «التوازن من الخارج» offshore balancing (كريستوفر لاين 1997) على المقاربة الفرنسية. فهذا المفهوم يمثّل استراتيجية لتوازن القوى في مجال متعدّد الأقطاب، حيث تلقي على الدول الحليفة تحمّل الأعباء، فيما ينحصر دورك في تأمين الدعم لها للحفاظ على التوازنات، ولا تتدخل عسكرياً بشكل مباشر إلّا عند الضرورة وبشكل مؤقت وسريع، وذلك بدلاً من الهيمنة المباشرة المكلفة.
بناءً على ما تقدّم، وفي أواخر شهر آب/ أغسطس 2020، صرّح ماكرون بأنّ ما فعلته فرنسا هذا الصيف كان مهمّاً: «هي سياسة الخط الأحمر. وقد فعلتها أيضاً في سوريا». وأكّد أنّ الإجراءات الفرنسية في شرق المتوسط، كانت متناسبة مع حجم التهديد وليس أكثر منه. تريد فرنسا تطويع الطموحات التركية وضبطها واحتواءها في شرق المتوسط، مع ما يلزم من إقرار ببعض المصالح التركية. إذاً، تستند المقاربة الفرنسية في «التوازن من الخارج» إلى رُكنين اثنين: الأول، الحفاظ على الوضع القائم ومنع تركيا من تغييره، والثاني تقوية الفاعلين الإقليميين من الحلفاء.
يشتمل الركن الأول (الحفاظ على الوضع القائم) على جملة سياسات، منها رسم خطوط حُمر واضحة ومحاولة فرضها عبر اللعب على حافة الهاوية (مثل الحدّ من نقل المدّد العسكري التركي إلى ليبيا عبر البحر، أو فرض انسحاب السفن التركية من مناطق متنازع عليها مع قبرص واليونان)، والضغط على «حلف شمال الأطلسي» والولايات المتحدة، لاتخاذ مواقف أكثر حزماً ضدّ الخطوات التركية، ومحاولة الحصول على دور حامي السيادة والسلم في المتوسط، وكذلك حامي المصالح الأوروبية (مسألة الهجرة) والهوية الأوروبية للمتوسط، وتعزيز الحضور العسكري في مياه المتوسط (توسعة القواعد البحرية في المنطقة وإرسال مزيد من المعدّات العسكرية، ومواصلة الانخراط في الحرب الليبية لمنع تركيا من تثبيت موطئ قدم لها هناك، مع ما يستلزم ذلك من تطوير التعاون مع الإمارات ومصر، ورفع أثمان السياسات التركية من خلال دفع الاتحاد الأوروبي والأميركيين لفرض عقوبات على أنقرة، وأخيراً التهديد بإخراج تركيا من أية ترتيبات واستراتيجيات أمنية غربية في المتوسط، في حال المواجهة مع حلفاء باريس، وفي المقابل إبداء الاستعداد لدمجها في الجهود الغربية في قضايا سوريا وإيران وروسيا، بحال تعاونت في شرق المتوسط.
أفق المواجهة
أما الركن الثاني (تقوية الفاعلين الإقليميين) فيشتمل على: إجراء مناورات عسكرية مشتركة (كما حصل مع إيطاليا وقبرص واليونان، أواخر آب/ أغسطس، بعد إرسال تركيا سفناً للمسح إلى مناطق متنازع عليها مع اليونان)، وتعزيز القدرات العسكرية للدول الحليفة من خلال تحسين قدراتها الجوية والبحرية، ودفع الاتحاد الأوروبي نحو مواقف أكثر وضوحاً وتماسكاً ضد السياسات التركية، لا سيما مع الارتباط الوثيق للاقتصاد التركي بالدول الأوروبية، والمشاركة بشكل أعمق في تحالفات إقليمية (مثل طلب الانضمام إلى منتدى غاز شرق المتوسط الذي تحوّل إلى منظمة إقليمية في 22 أيلول/ سبتمبر 2020 في سياق التنافس المحتدم مع أنقرة)، وجذب لاعبين خليجيين بمقدّراتهم المالية للمشاركة في جهود احتواء تركيا في ليبيا تحديداً، وتعزيز الحضور السياسي في دول شرق المتوسط لمنع تركيا من استغلال أي فراغات في هذه الدول (كما هي الحال في لبنان منذ انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020).
لن تتراجع فرنسا عن جهودها لاحتواء النفوذ التركي المتزايد في شرق المتوسط وستركّز على العمل من خلال «التوازن من الخارج»
لن تتراجع فرنسا عن جهودها لاحتواء النفوذ التركي المتزايد في شرق المتوسط، وستركّز على العمل من خلال «التوازن من الخارج» بما يمنع وقوع صدام مباشر ويوزّع العبء على الحلفاء ويفرض أثماناً مرتفعة على السياسة التركية. تهدف هذه الاستراتيجية إلى منع تركيا من تحقيق مرادها وصولاً إلى دفعها لاكتشاف حدود التوازن، ثم التواضع في متطلّباتها وأهدافها. ولا يمكن لفرنسا في ظلّ التحوّلات الدولية الحالية، على حساب الغرب، والشكوك حول الاتحاد الأوروبي أن تخسر نفوذها الإقليمي في شرق المتوسط حيث مجالها الحيوي القريب.
من المستبعد جدّاً وقوع مواجهة مسلّحة بين فرنسا وتركيا، وذلك لأسباب مرتبطة بالطرفين وكذلك بفعل الدور الأميركي، ولذا سيبقى الصراع ضمن «المنطقة الرمادية» بأدوات العقوبات وحروب الوكالة وحرب المعلومات واستعراضات القوة والضربات بدون بصمة والهجمات الإلكترونية. سيتواصل التنافس صعوداً وهبوطاً، بهدف جمع مزيد من النقاط والقضم وممارسة سياسات حافة الهاوية مع مساكنة فرنسا لبعض المطالب التركية ورسم خطوط حمر أمام مطالب أخرى. سيعمل الاتحاد الأوروبي و«حلف شمال الأطلسي» كآليات لامتصاص التوتر، لا سيما الناتج عن المواقف التركية، وتوجيهه إلى داخل المؤسسات لحلّه لا سيما في الخلافات الحدودية. فيما تبقى ليبيا الساحة الأكثر احتمالاً للتصعيد نظراً لإمكانية أن تشهد قتالاً بالوكالة.
إنّ نجاح جو بايدن في الوصول إلى البيت الأبيض، سيعزّز من الموقف الفرنسي على حساب تركيا (لا سيما إن استفادت الإمارات من مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني لحصد بعض عوائده في ليبيا)، حيث سيحرص بايدن على ترميم العلاقة مع الأوروبيين والتشدّد مع روسيا وتركيا، وهو ما يمكن أن يشكّل حافزاً لتقارب تركي ـــــــ روسي في المقابل. إنّ استمرار الجهود لاحتواء تركيا في شرق المتوسط، خصوصاً في ظلّ تطوّر العلاقات الإسرائيلية الخليجية بعد انطلاق قطار التطبيع، يمكن أن يكشف عن مجال جيوسياسي جديد للتعاون بين أنقرة وطهران حيث للأخيرة حضورها في كلّ من لبنان وسوريا، وهذا الاحتمال يمنح طهران مساحة مناورة إضافية بوجه الأوروبيين في المرحلة المقبلة. وختاماً، هل يتحوّل لبنان المنهار والمفكّك إلى ساحة اشتباك شرق متوسطية، إن انفلت التنافس الفرنسي ـــــــ الخليجي مع تركيا؟
جريدة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/10/21